ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(23) / د. محمدو احظانا

أم الروايات

رواية الغول “انوفل” وطريق “لكنيديه”

(الجزء الأول)

قال الراوي لحلقته:
قبل أن أقص عليكم حكاية الغول انوفل، حاجيتكم ماجئتكم ماهو؟
“الأخيذر أبو النبان، سبق الخيل والنجبان، واجتاز لبيره وأكان، وقال في رقاب إسنغان، وجعل المدينة مروحا”؟
بعد أن عجزت الحلقة المتلهفة على حكاية انوفل عن حل الأكحجية خاطبها الراوي:
– إذن، غلبتكم، وسلت أوتادكم؟
فأجابوه جماعيا:
-نعم.
فسألهم:
-وهل ستعطونني حسنة من حسناتكم؟
فردوا جماعيا:
-لا، فالحسنات لاتعطى.
-أصبتم فالحسنات لاتعطى. إذن؛ هو التفكير.

الجزء الأول من رواية انوفل

الفصل الأول:

قال لكم ما قال لكم:
إن فتاة صعبة المراس شديدة العناد، لاتسمع إلا بقدمها؛ عاشت في إمارة أولاد امبارك، بالحوض ولعصابة وباغنه. وقد زجرتها أمها وهي صغيرة عن النوم أول الليل أمام الخيمة، خاصة ليلة الجمعة.

****
وفي إحدى ليالي الجمعات وكانت الفتاة قد بلغت لم تبال بنصيحة أمها فنامت، وصدف أن مر فوقها غول يسبح في الهواء.ففزعت منه فزعا شديدا، ومن ذلك الفزع تصور في رحمها كائن نصفه من الفتاة البشرية ونصفه الآخر من الغول الجوال، فصار جنينها بذلك شقا.
ولما رأت أمها ما حل بابنتها أبتعدت بها عن معارفها إلى قرية زاره، جنوب أفله، ولم تلبث أن وضعت ابنها العملاق، ذا الأربعة أصابع في اليدين والرجلين، و ذا الملامح الفائضة، والأعضاء المديدة.
ولم يفتأ الطفل أن أصبحت في جسمه قوة أربعين رجلا من الأولين.

****
كان انوفل إذا ذهب للعب مع أقرانه من الأطفال في وادي الدوم العظيم أخذ منهم أربعة بيد واحدة ورمى بهم أغصان الدومة العملاقة ليسقط ثمرتها فتسقط الثمرة ويسقط معها الأطفال أمواتا، فأحدث بذلك مقتلة في أقرانه، ولم يكن ذلك إلا لأن عقله كان عقله صغير على جسمه وقوته، وحق له فهو صبي غيلان.

****
لما تكرر الحادث شكا أهل القرية لأم انوفل من قتله لأبنائهم فرحلت عنهم بمتاعها ودوابها شرقا، وآوت هناك إلى جبل عال في ظهر وادي بالنعمان يدعى “الراجاط”، به جرف آمن ظليل، تتفجر منه عيون جارية بالماء النمير طوال السنة،
فبنت خيمتها وأقامت فيه لتربيه ولدها بعيدا عن أعين الناس، و حتى تكف عنهم بأسه المستطير،، فلما بلغ أشده بعد عشر سنين أصبح يطاول النخل الباسق، ويسابق الظلمان فيسبقهم بما يستريح فيه قبل وصولهم لنهاية شأو السباق.

الفصل الثاني
حن انوفل إلى مسقط رأسه في زاره فطلب من أمه الإذن لزيارتها، فمنعته خوف عليه من أهلها، فلما رأته حزينا لا يأكل ولا يشرب، ولا يسابق النعام ولا الخيل الحرائر كما كان يفعل؛ أذنت له في زيارة قريته.

****
ولكي يتقوى على سفره ذبحت له أمه جذعة بقر سمينة، شواها على صخرة بعد ما أحمى عليها بالنار فاصطبح بلحمها وشحمها، ورشف مخاخها، ونضب أضاة تصب فيها عين جارية من عيون الراجاط، وانطلق ريحا وعماية نحو زارة، فوصلها ظهرا دون أن يسخن دمه أو تتلاحق أنفاسه، بعدما قطع مسافة أربعة أيام للراكب المغذ في ساعاتين.

****
تنادى الناس أن انوفل قدم، فسلم على أصحابه وتماجد معهم خيرا، ولذلك سامحوه على ما فعل بإخوتهم وعفى عنه الآباء والأمهات، وخدم أهل القرية بما يرضيهم، وطرد عنهم بعض السباع الضارية، وكسر رقاب من واجهه منها فهربت البقية.
وفي المساء عاد انوفل إلى أمه فوصلها قبل غروب الشمس، وذبح بقرة تعشى بها ورشف أضاة يجري فيها جدول ماء من عيون الراجاط، وتوسد صخرة ونام حتى أحرقت شمس الضحى جلده، فاستيقظ ليفطر بما اصطبح به أمس. وانطلق ليقيل في زاره. وكان هذه سيرته كل يوم من أيام الدنيا.

الفصل الثالث
قررت أم انوفل بينها وبين نفسها أن تبحث لانوفل عن زوجة تليق بابنها هذا الذي لايبارى في شيء، حتى يكف دينه. طلبت منه صباحا أن يحملها إلى زاره بعد فطوره، فوضع لها فروا على كتفيه وانحنى لها حتى ركبت، وانطلق بها أسرع من فرق نعام شارد، و لم يتوقف أو يسارح أنزلها عن كاهله قبيل الزوال رحبة زاره، وكأنه كان يحمل ريشة.

****
وجدت الأم لولدها انوفل فتاة مناسبة تعرفت على أسرتها قبل أن ترحل عن زاره، تدعى فاطمة ليلي فعقدتها له جماعة القرية، بحضور النساء، على سنة الله ورسوله؛ وشرط أن لاسابقة ولا لاحقة؛ وعلى صداق المثل.

الفصل الرابع
شيد انوفل لفاطمه ليلي دارا يسيح فيها فارس، مسورة كالحصن، وبوابة سورها صفيحة ثقيلة من الحجارة الحمراء، مرسوخة في وطاء من الجبل، تدور عند فتحها رحويا، فإن أوصدت فلا يستطيع مؤمن ولا كافر أن يفتحها إلا من الداخل برفع رتاجها المحكم. ثم قسم لها الدنيا بعد ذلك بين قدحين،
فملأ سور دارها الحصين بقرا وغنما، وأثقل جيدها عقودا، وذراعيها دماليج وأسورة من خالص الذهب، وجلب لها خلاخيل الفضة، وألبسها الديباج المجلوب والقطن المنسوج، وغمرها بالغوالي والمسك ولبان البخور، وأعاشها بمخاخ الغزلان وقديدها، إذ كان يصيدها بيده متى أراد، عدوا وطرادا أو قنصا بمزاريقه التي لا ترمي منها إلا ما حان أجله.
ودأب انوفل بعد كل هذا على المبيت ليله في زاره والمقيل نهاره في عيوينات الراجاط.

الفصل الخامس
أحس انوفل بنعمة الرخاء وشعر بسعة الخاطر، والأمان بعد أن حرزته أمه بحرز عن الرصاص والحديد والنحاس، فلم يعد يخشى من الفرسان الجوابين وبنادقهم السليطة، ولا من العتاة المتربصين في الأخاديد والأدغال وأكناف الأشجار… وقفت له الدنيا على أربع، فخامر نفسه أن يبدد وحشة دربه اليومي الطويل بين زاره والعوينات بما يطربه، فاتخذ لنفسه ربابة ذات وتر واحد، وصار يعزف عليها إيقاع سيره، وألحان طلوعه إلى الأعالي وهبوطه إلى الأغوار والأدوية، وخواطره و مشاعره الجياشة تجاه فاطمه ليلي، وشده وتراخيه في الجري، وتعثره بالصخور والحومان فوقها…
فكان سفره جيئة وذهابا متعة لمن سمعه، كماهو مطرب لانوفل، وملء فراغ المسافة البعيدة على غيره. حتى الوحوش والغزلان وخيطان النعام كانت تتبعه لتسمع عزفه البديع.

انتهى الجزء الأول


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى