
ظرافات وظرفاء (57) الأستاذ/ محمدو سالم جدو
من أشد الأحياء التي تنفر منها نفسي الكلاب والمجانين (مع احترام الكرامة البشرية) ومع ذلك فكأنما تعرف هاتان الفئتان ما في نفسي فتتفننان في التقرب إلي معاقبة لي عليه. ومن الغريب أن نفوري منهما يستحيل إقداما عليهما واستهانة بهما عندما يتوجه تهديدهما إلى ضعيف!
في الشتاء الواصل بين عامي 1992 – 1993 كان علي إجراء تحقيق ميداني عن “طب جاه” لجريدة “الشعب” في إطار تعاون كان بيني وبينها، وكان العمل الصحفي الوحيد الذي حضرت له نفسي سلفا، والوحيد الذي لم أنجزه مع ذلك!
معلوماتي عن هذا الموضوع بحاجة إلى تحيين، فقبل ذلك بحوالي عشر سنوات عهدت المجانين يجوسون خلال المستشفى الكبير وما حوله انطلاقا من مكان داخله يسمى “المخيم” يجاور جناح الولادة، وربما قام أحدهم بزيارة تفقد واطلاع خاطفة لجناح الولادة، وكنت أعجب من ضعف الإحساس الأمني لدى إدارة المستشفى التي تضع المجانين جنب الحوامل والنفاسى والمواليد. أما الآن فعلمت أن لهم مستشفى بمقاطعة السبخة.
كان السائق الموجود مريضا، والمصور الفارغ امرؤ يتصرف بحرية أحيانا، ورأيت وسمعت من “بطولاته” ما جعلني أعفيه من مرافقتي، على أن تبعثه الإدارة بمفرده – أو تبعث غيره- لأخذ الصور المناسبة؛ خصوصا وأني لا آمن أن يروقه الجو فيبقى هناك!
(وذو الشوق القديم وإن تعزى ** مشوق حين يلقى العاشقينا).
لم أكن أعرف المكان الذي توجهت إليه بدقة؛ وبالتالي لم أعرف طريقه المثلى، كما أن النقل في تلك الأيام كان مختلفا عما هو عليه الآن. لذا ركبت حافلة من لكصر إلى سوق السبخة ومن هناك شققت طريقي بصعوبة إلى حيث توجد عربات البغال (وتيرات) في الطرف الأقصى لوقفة “أف” وهناك فوجئت بأن مقصدي ليس على مسار تلك العربات، فاستأجرت إحداها لإيصالي إلى المكان بغية استطلاعه ولقاء مسؤوليه لعل أن تحدث ألفة نفسية بيني وبينه تسمح لي بإنجاز التحقيق.
عندما وصلت إلى المكان فوجئت بعدة أمور ألغت الصورة النمطية التي أحملها عن “طب جاه” أتذكر منها:
1. أنه ليس للمجانين فقط؛ وإنما هو للأمراض العقلية والعصبية وبه نزلاء من المصابين بكليهما.
2. توقعت أن يكون المكان ملعب جِنة صاخبا فوضويا، فوجدته كسائر المستشفيات وربما كان أهدأ من بعضها.
3. توقعت أن يكون الدكتور جا حسين عملاقا خشنا ليتمكن من ترويض المجانين والسيطرة عليهم فوجدت رجلا ودودا وديعا خفيف الوزن يمكن حمله باليد الواحدة!
بعد المعاينة والجولة التمهيدية انصرفت على آمل العودة في اليوم التالي لإنجاز العمل الذي لم أنجزه حتى اليوم! لكن ذلك لا يعني أني حرمت من طرائف المكان ونزلائه، وإن كنت سأتوقف هنا “حتى إشعار جديد”.