ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(37) / د. محمدو احظانا

قالت الراوية:

حاجيتم ما جئتكم ما مورد هذا المثل الحساني:
“اقطع لتُهاب، فالقطع حجاب”؟
أجاب أول المتكلمين مسابقا إلى الحل:
مورد المثل أن من كان حاسما في مواقفه وتصرفاته، واضح الرؤية، سيهابه الجميع وكأن عليه من الهيبة حجابا محكما.
أما من كان مترددا هيبانا، فلن يحترمه أحد؛ وسيقتحمه الجميع.
علقت الراوية:
إجابة كاملة. أرأيتم بلاغة الأمثال الحسانية، وحسن صياغتها واختصارها، وصدقها على أحوال الناس وأزمنتهم؟!

الفصل الأول
قال لكم ما قال لكم..:
إن أطفال حلة اسويد أحمد ولد امحمد، ولد محمد شين، ولد بكار، ولد أعمر، بن محمد بن خونا الإعيشي؛ خرجو ذات يوم لممارسة هوايتهم لصيد الضِّباب في أودية وجبال “تكانت”، أيام كانت خصيبة.
و من بين الأطفال ولد لأمير المحلة يسمى بكار.
ولأن الخصب مصحوب بكثرة السباع والوحوش المفترسة وغير المفترسة، فإن أسر الأطفال يراقبونهم عن بعد خوفا عليهم، ويتفقدونهم أحيانا أثناء بحثهم عن الضباب ونبق السدر، وعنب الثعلب، والدراق البري، والكمأة، وربما تسلى المختونون منهم قريبا بصيد السحالي وغيرها، بالقسي والسهام الشجرية الخفيفة، حتى يتعودوا على التسديد بالبنادق إذا كبروا.
كان بكار يسير بين الأ ولاد حتى فرقتهم الطرائد الصغيرة، فرأى ضبا هرب منه فطارده، ولم يدرك منه خارج جحره إلا ذيله، فأمسك به. وليتوازن أكثر ثبت قدميه في صخرتين تحيطان بالجحر، وأخذ يسحب الضب دون طائل.

الفصل الثاني
من خصائص الضب أنه يحفر جحرا يُدخله ولكنه يوسعه من الداخل، كما أن أضلاعه متجهة إلى الأمام مما يساعده على قوة الجذب إلى الأمام.
و عندما يمسك أحد بذيله ينتفخ في جحره، ولا يستطيع أقوى الرجال أن يجذبه، إذا كانت الأرض قاسية أوصخرية.

****
لم يزل بكار ذو العزيمة المتوارثة يمسك الضب بذيله، والضب منتفخ في جحره إلى أن عاد عنه الأطفال إلى محلة أبيه الأمير، ولم يتذكره أحد إلا بعد نهاية لعب الأطفال أول الليل، إذ ظنه أهله يلعب معهم.

****
بسط الليل إزاره على الأودية والجبال وقنن الأشجار، وبكار يرى ويمسك بذيل الضب، لا يتركه يدخل أكثر، والضب قد أمن نفسه بانتفاخه داخل جحره. فكان الأمر بالنسبة للطفل الصبور والضب العنيد صراع إرادتين في خلأ من الأرض.. و”الرجال متعارفون”!

الفصل الثالث
سمع بكار جميع الأصوات التي تلهج بها الغابة ليلا أصوات الضباع المتضاحكة الباكية، وزئير الأسود الضارية، وعواء الذئاب الجائعة، وصراخ القرود الخائفة، ونقيق الضفادع، وصيحات جن عابرين.. كما أخبرته راوية المحلة عن تلك الصبحات المتقصفة من قبل.
لم يكن للطفل بكار أنيس في وحشته غير نجوم السماء، فصار يراقبها ويركٓب منها الأشكال حتى لاينام. ولم ينم.
كان مستعدا لفعل أي شيء إلا أن يفزع، أو تهتز منه شعرة قلق، أو يحرر الضب العنيد.. فتلك مسائل دونها خرط المستحيل.
أما رجال المحلة فقد أيقظوا أقران بكار من نومهم لما افتقدوه، يسألونهم أين كانو اليوم؟ فأخبروهم، وهم يغالبون النعاس ويغلبهم بأشياء لم يميزوا منها شيئا.
تركوهم وأخذوا المشاعل ونشروا عريضة الرجال، فلم يهتدوا إلى بكار. وقد سمعهم عن بعد ينادونه، وانتظرهم دون أن يفرط في ذيل ضبه، أو يصرخ حتى يسمعوه، لأنه يحتاط من الحيوانات المتوحشة الجوابة أن تهتدي إليه.

الفصل الرابع
لما سحب الليل إزاره الأسود غربا من حيث أتى به غشيت خيل الإمارة بكار وعلى رأسهم الأمير اسويد أحمد، فلما رأى ابنه فرح به، وأطلق رصاصات الوجدان السبع للضالة والتائه، فسمعها أهل المحلة وفرحوا بها وعلت زغاريد النساء.

****
قال الأمير لابنه بكار زاجرا:
-هيا اركب أيها الشقي. كادت السباع أن تأكلك وأنت تمسك بذيل ضب تافه.
رد بكار على أبيه بهدوء:
-قل لرجالك أن يكسروا غار الضب من فوقه حتى أتمكن منه، ويعطوني موسى أو خنجرا أذبحه به.
أقبل الرجال على الغار يكسرون حجارته. وساعدوا بكار في ذبح الضب.

****
حمل بكار الضب الذبيح في إحدى يديه، وحمله هو أحد الرجال وأركبه على كفل فرس أبيه المعروفة “الجدية”(1).

الفصل الخامس
لما فصل الفرسان عن جحر الضب سأل اسويد أحمد ابنه بكار:
-لم لا تطلق ذيل الضب بعدما يئست من إخراجه من جحره؟
فأجابه:
أخاف أن تعتادها مني ضباب تكانت، فيكررونها لي دائما.
قال اسويد أحمد لرجاله:
-عندما يصبح ولدي هذا بكار أميرا عليكم فسيدوخ كل أعدائكم، ويملككم ملكا مديدا
وكان الأمر، فقد زاد ملكه على ستة عقود وهو أمير تكانت، إلى أن قتله المستعمر افرير جان الفرنسي، شهيدا مقبلا(2) في معركة بو قادوم، وقد بلغ من الكبر عتيا.

قالت الراوية:
ورجعت أنا عنهم أقص حكاية الضب العنيد وبكار ولد اسويد أحمد، دائرا عن دائر.

……..
1- الجدية: مربط خيل جياد لأهل اسويد أحمد.
2- استشهد بكار على يد الضابط الفرنسي المتعجرف بل المتوحش افرير جاه سنة 1905م وهو يقاتل وقد بلغ مائة سنة. وكان حكيما في زمانه. ولديه أكثر من حكاية ومثل يروى عنه.
ومن النوادر المأثورة له أنه لما أصابه الفرنسيون بطلق ناري في أصل فخذه قال له أحد أبناء عمه:
-الأمير بكار! جرحك لله الحمد قابل للعلاج والتعافي.
فرد عليه بكار مبتسما:
– عجيب. كنت أسمع أن الحسد كله في ابن العم ولم أشاهدها إلا الآن. تحسد لي أن أستشهد مقبلا غير مدبر في قتال أعداء الله ورسوله وأنا في المائة من عمري؟!

م. أحظانا


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى