ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(16) / د. محمدو احظانا

أم الروايات
حكاية “الزغداوي” واعلي شنظوره

(الجزء الأول)

الفصل الأول
قيل لكم، ماقيل لكم:
إن الأمير اعلي شنظوره لما صار يافعا كان يكفئ مهراس الحبوب ويقف عليه وهو يغني:
– عندما أكون أنا بهذا الطول لن أترك “امهيره” ترسل شمالا.
وامهيرات مدرك خيل عتاق لإمارة أبيه هدي ولد أحمد بن دامان.

****
عندما أصبح اعلي شنظوره شابا أخذ رفيقين وراعيا لجماله:
ولد رازكه، وسيدي محمد الأعرج، والراعي.
كان الأمير في غاية القوة والشجاعة، وولد رازكه شاعرا مجيدا، وسيدي محمد الأعرج لايكذب أبدا. ورابعهم راعي جمالهم ودليلهم وهو خريت زمانه.
ركب الأربعة جمالهم بعد أن أخذوا زادهم، واتجهوا شمالا، قائلين في نفوسهم للساقية الحمراء: أين أنت؟
ولما لم يذكروا وجهتهم لأحد، فقدوا، وراجع أهلهم في رزئهم.

الفصل الثاني
انطلق الركبان الأربعة ينهبون الفيافي في وجوههم شمالا، ويخلفون السباسب وراء ظهورهم.
تحدثوا فيما بينهم حتى لم يبق لهم من حديث، وغاب البشر عن أرضهم وابصارهم، ولم يلقوا في طريقهم أنيسا غير ضوال الإبل، وبعض الوحوش، وغير شخوص القفار، ودوي الصمت كلما أوغلوا في أحشاء الصحاري والبيد الموحشة.
في عصر أحد أيامهم المتشابهة رأوا دائرة من الصخور البيضاء عن بعد فقصدوها لتأويهم وتحميهم من سطوة برد تيرس الأصم، فلما اقتربوا منها وجدوا أثار غنم ومعها أثر بشري عملاق شبهوه بأثر أقدام عوج بن عناق. فتبادلوا الرأي، واتفقوا على النزول جنب الحظيرة طلبا للدفء، وتركوا رحالهم وأمتعتهم مشدودة إلى جمالهم المعقولة قرب الحظيرة.
كانت الحظيرة محاطة بحجارة تعلو أكثر من قامتين لرجل مديد الجسم.
لم يبطئ الرجال حتى غشيتهم غنم طويلة السيقان يتبعها رجل أعور من يمناه كأنه قد من نفس صخور الحديقة.
لما رأى الأعور الرجال واقترب منهم بحيث يسمعهم ويسمعونه، رحب بهم، واحتفى احتفاء زائدا، ثم دار بغنمه التي نمت أجسامها حتى ليظن من رآها عن قرب أنها ستصبح بقرا في العام القادم وإبلا في العام الذي يليه.
جذب الرجل الضخم صخرة عملاقة لا يستطيع أن يحركها إلا أربعون رجلا فانفتحت الحظيرة وأمر ضيوفه أن يدخلوا على الرحب والسعة، وأدخل الغنم في أثرهم، وجذب الصخرة بيد واحدة وسد بها الحظيرة.
كانت كل تحركات وتصرفات الرجل موزونة، وكلما انقطع حديثه عن ضيوفه وصله. سألهم:
– من أين قدموا؟ وإلى أين يتجهون؟ ومن آخر من لقوه من البشر؟ ومن أي البلاد هم؟
وكان ينظر إليهم في الأثناء بعين فاحصة كأن نظراتها تخترق عظامهم مثل سهام نارية.
سألوه عن اسمه فقال لهم إن اسمه: الزغداوي. ولم ينتسب كعادة الرجال.

****
أخذ الزغداوي يقدح حجرا بحجر مع بعض التبن حتى تحكمت فيه النار، وأوقد حطمة عظيمة في حطب مركوم جانبا.
كانت ألسنة اللهب تطارد ذوائب الظلام، وحنادس البرد فتطردها بعيدا.
وضع الرجل بعض أماعز الحجارة في اللهب حتى احمرت، ورمى إحداها في قعب كبير، وحلب عليها من ضروع غنمه المنهدة لبنا خالصا وهي تشنشن حتى تساقطت الرغوة من أطراف العقب.
أعطاه للرجال فشربوا اللبن احتساء بتدويره عليهم حسوة حسوة، وحلب لهم ثانيا وثالثا إلى أن ارتووا لبنا ساخنا سائغا للشاربين، فحمدوا الله، وشكروا مضيفهم على كرمه، وناموا متعبين من السفر.

****
لكن اعلي شنظوره لحذره وحزمه المتوارث لم ينم، فقد سمع من أبيه وهو صغير: “لاتنم ليلة أمانك”، فوعاها وعمل.بها؛ لذا تظاهر بالنوم، وراقب كيف سيتصرف مضيفهم الذي لم يشرب قطرة لبن واحدة، فرابه ذلك.

****
أخذ الرجل الصخري التقاسيم، الشيطاني العين سيخ حديد مدبب الطرف كان مخفيا بين صخرتين، غليظ الوسط، له مقبض خشبي صلب، ودسه في النار حتى احمر. وأقبل على الرجال النائمين، واختار أكثرهم جسامة وهو راعي الجمال، وكان منبطحا فغرز السيخ في ظهره حتى غمر الدخان وجهه.
صاح الراعي صيحة عظيمة ورأسه يضرب قدميه، ومات من حينه.
أخذ الزغداوي يقلبه على النار وثوبه يشتعل عليه، وكأنه ريش دجاجة، حتى تفسخ لحمه عن عظمه.
فالتهمه التهام الأسد لفريسته، وكسر مخاخه بين يديه وارتشف المخ، وأعاد السيخ إلى النار ونام على قفاه متوسدا صخرة قرب النار.
انتظر اعلي شنظوره حتى سمع شخير الزغداوي، فأخذ السيخ المحمر بكلتا يديه ورسخه في عين الزكداوي الباصرة بكل قوته فانفجرت بصوت صاعق، و تطاير ماؤها في النار حتى طشت.
حاول الزغداوي أن يدرك اعلي شنظوره فانحرف عنه وابتعد، وأيقظ صاحبيه على عجل ليبتعدوا.
جذب الزغداوي السيخ من حجر عينه بصعوبة وهو يولول:
– فعلها بي أشرار البشر. ويلكم إن أمسكت برقبة أحدكم، وكسرتها كسر أعواد الثمام، سيندم على ليلة ميلاده المشؤومة حينها. سألتقطكم واحدا واحدا، التقاط المغناطيس لبرادة الحديد. أنتم لا تعرفون الزغداوي، أبا البلاوي، آكل البشر، ومفتت الحجر، وسلال الشجر.
كان يخذرف بيديه باحثا عنهم بين غنمه، وله فحيح ثعبان موتور:
– لا تتعبوا أنفسكم بالروغان مني فلا مخرج لكم من مصيركم المحتوم، هنا في جوفي أنا الزغداوي آكل البشر. سأشرب دماءكم حارة وأنتم أحياء تنظرون، وأرتشف مخاخكم قبل أن ألتهم لحومكم الطرية نيئة. أيها المنكودون. ألستم أنتم من قاد نفوسكم إلى حتوفها من أقصى القبلة إلي أنا في عين السهوة؟ أنتم رزق ساقه سوء الحظ إلي، إنه رزق الضب الذي أتاه عند جحره. بوابة الحظيرة لا يستطيع أن يحركها غيري أو من في ساعده قوة أربعين رجلا. سلموا أنفسكم خير لكم.. واستريحوا من تعب الدنيا، وهبوا الحياة لمن هو أعلى منكم قدرا وأشرف عرقا، دعوه يلتهمكم واتركوا دماءكم تنبض في عروقه النبيلة حتى تصبح نقية.
كان الرجال الثلاثة يتهربون من الزغداوي كلما اقترب من أحدهم. ولكنهم كانوا يتيقنون الهلاك.. فزادهم ورحالهم خارج الحظيرة، والرجل يهددهم تهديدا يفت في النفس ويفطر الكبد، وهو مدركهم لا محالة اليوم، أوغدا، أو بعد غد:
– إن لم أكن أراكم بعيني فإنني أراكم بأذني وأشم رائحتكم الشهية حيث أنتم، فاستسلموا للزغداوي، أبي البلاوي، مفتت الحجر، وسلال الشجر.

(انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني.)

م. أحظانا
.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى