ثقافة

ظرافات وظرفاء (42) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

تكاد الوقائع الحربية تنحصر تاريخيا في النهار؛ لذا نسمع يوم الهباءة ويوم بدر ويوم القادسية.. إلخ، بل بلغ الأمر أن سميت الوقائع بأيام العرب! بيد أن الليل في حالات نادرة شهد معارك بعضها مخلد في الكتب كليلة الهرير، وبعضها أهمله المؤرخون كليلة الدكان التي سأروي قصتها أدناه:
في أواخر العقد قبل الأخير من القرن العشرين للميلاد كنت بإحدى المدن الحدودية، وكان هناك صديق لي يجمع بين الجبن المفرط والطرافة وأشياء أخرى. كان صديقي في البرزخ الفاصل بين التخرج والتوظيف، ولديه متجر للتقسيط في طرف المدينة، وهو الآن إطار محترم ورجل سياسة يشار إليه بالبنان. لقيته ذات مساء فأصر على اصطحابي للمبيت معه لأن “وگافه” لديه مشكلة تمنعه من المبيت معه تلك الليلة، وهو بحاجة إلى من يحادثه ويؤاكله ويشاييه وينام معه (وهذه أهم عنده).
ذهبت معه وسامرته باستمتاع حتى انتهى وقت إقبال المشترين فأغلق الباب ونمنا داخل متجره، وبعد ساعات أحسست به نهض ففتح الباب وخرج لحاجة له ثم عاد إلى مضجعه بعد أن أغلق الباب، وقبل أن يعاودني النوم، أحسست بخشخشة داخل المحل.. لمست صاحبي فوجدته نائما في مكانه! جلست بهدوء ومددت يدي إلى زر الإنارة الذي كان قريبا منا فأضات المكان لأجد المفاجأة.. شاب إفريقي قوي الجسم لماع البشرة دخل أثناء وجود صاحب المحل خارجه واختبأ حتى نام فبدأ يتلمس باحثا عما قد يفيده.
ما إن سطع النور حتى جرى الشاب إلى الباب فتسورت صفيحة خشبية (كوتنر ابلاك) تفصل بيني وبين الباب فالتقينا عنده، وبدأت معركة حامية الوطيس.
من فضل الله أن الشاب كان غير مسلح، ولكنه كان مستميتا من أجل النجاة بنفسه وكنت مستميتا من أجل السيطرة عليه وبقاء الباب موصدا خشية وجود كمين أو دعم خارجي، بينما كان صاحبي – الذي هب فزعا في الدقيقة الأولى- في أقصى الرعب والانزعاج، يناشدني أن أدع الشاب وشأنه. كان يقف ملتصقا بالجدار وكلما اقتربنا منه في اشتباكنا فر بحذر وخفة إلى ناحية أخرى من متجره، بعد حوالي 10 دقائق أو أكثر تغلبت على قِرني وجمعت يديه خلف ظهره، فطلبت من صاحبي لثامه المرمي على وساده، فامتنع من إعانتي بأي شيء كما يفعل الْمُحْرِم الورع مع الصائد الحل!
كان اللص عنيدا، ولم يكن متاحا سوى لثام صاحبي (تمنيت ليلتها لو كنت ممن يستعمل اللثام) وكانت يداي مشغولتين بإمساك يديه، ورغم ذلك واصلت دفعه إلى حيث استطعت جذب اللثام برجلي فشددت وثاقه وفتشته فلم أجده قد أخذ شيئا، وجلست أمسح العرق عن وجهي.
بدأ صاحبي يستجديني الإفراج عن اللص فرفضت، وحاول بكل السبل؛ مرة قال إن المتجر متجره هو وقد وهبه له، قلت له: هبه إياه في وقت آخر، أما الليلة فلا تَصَرُّف لك. ومرة قال إنه سيطلقه فأنذرته بأنه لو أطلقه لأوثقته هو مكانه! فأعاد النظر في موقفه. ومع ذلك لم أستطع النوم خشية أن يطلق سراحه.
كان الباقي من الليل قليلا فواصلت حراسة الأسير مستمتعا باعتذار صاحبي إليه وتطييبه لخاطره، وأذكر أن مما قال له عني: “لعدت تاهم عن ذ امنادم يشتغل امعايَ أراهوالك يبويَ ما يشتغل امعايَ، أيلو كنت تاهم عن ذنبت شقاوتُ اصحةْ نفسُ ما ايبات امعاي! شفتُ متكايس ايوخظ بالشور ما طيح تنگلايه، الا كنت شاك عن ذ نبت جهدُ. انت گاع ما اگبظت ش، يغير خايف من إكتفني افبلك، أمالك اسمع ال گال!”. وواصل الحديث إليه على هذا النحو لتبرئة ساحة نفسه من انتقام محتمل، وأنا أكاد أقهقه لولا الحرص على قِناع الصرامة، بينما لم تعبر ملامح الأسير عن اهتمام بما يقول.
في الصباح مد صاحبي إلي يده بكأس من الشاي وقطعة خبز فاقتربت بهما من الأسير وبدأت أطعمه وأسقيه الشاي مراعاة لعائق يديه، وكان صاحبي حريصا على القول: “أهيه اشرب يبويَ، أوكل إسلمك..” ونحو هذا. وبعد الشاي حملناه في سيارة أجرة إلى مفوضية الشرطة فسلمناه إليها، وحين استنطقه الشرطي تبين أنه لا يعرف الحسانية! هنالك تشجع صاحبي فبدأ يسبه ويشتمه ويصفه بأسوأ الأوصاف..
وبعيد خروجنا لقينا أحد المعارف – وكان قدر رآنا في الطريق إلى الشرطة- فسألنا من يكون ثالثنا في سيارة الأجرة منذ قيل، فبادره صاحبي بالقول: ” لص.. مگصور اعمر احكمناه البارح”! أما أنا فلم أجد ما أقوله وإنما ابتسمت.

**********
من رمضان الماضي وأنا في مفاوضات ماراتونية مع صديقي “بطل” القصة المذكور أعلاه من أجل نشرها. أنا لا أرضى نشرها دون موافقته وهو يرفض ذلك ويتعلل بالأعذار الواهية و”يفطح رأسه” كما يقول “أدينكات”. مرة أبدى موافقته على نشر ما يخصني دون ما يخصه فأفهمته أنه لا حق له فيما يخصني وأنني لا أستأذنه إلا فيما يخصه، وأن ما يخصني لا يمكن اجتزاؤه، ولا قيمة له منفردا عما يتعلق به هو.
واليوم وقد وافق على نشر الموضوع دون الإشارة إلى هويته أبادر بكتابته ونشره قبل أن يغير “الوراث” رأيه.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى