ظرافات.. وظرفاء (15) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
قبل فترة رغب أحد أفاضل كبار العلماء ببلادنا (حفظه الله وأبقاه ووفقه) في نشر كتاب مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله للشيخ أحمدُ بن احمذيه رحمه الله، لأسباب وجيهة، فعهد إلي بتحقيقه الذي دام عام 2000 وبعض تاليه. لم ينشر الكتاب لأسباب لا تتعلق بي ولا بصاحب الفضيلة الذي اهتم به، وليس هذا “محل الشاهد”.
كان تحقيق الكتاب والعمل المهني وشؤون البيت أقانيم لا أخلص من واحد منها إلا إلى آخر (أو إلى بعض الملحقات) وربما أدخلت بعضها في بعض.. لذا ذهبت إلى إحدى المكتبات فاشتريت منها “أخبار الحمقى والمغفلين” لابن الجوزي، فكنت إذا سئمت روحت عن نفسي بقراءة فصل منه.
يبدو أنني كنت مترفا حينها؛ أما اليوم فقد تعودت على مثل هذه الأمور وأصبحت أتسلى عن بعضها ببعض، كما قال أبو الطيب:
وصرت إذا أصابتني سهام ** تكسرت النصال على النصال!
أو كقوله:
أسفي على أسفي الذي دلهتِني ** عن علمه فبه علي خفاء
وشكِيَّتِي فَقْدُ السقام لأنه ** قد كان – لما كان- لي أعضاء!
وفاء للماضي وتعميما للفائدة (إن كانت) أفرد هذا الحديث لنماذج مما جاء في “أخبار الحمقى والمغفلين” لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي (508 – 597 هـ/ 1114 – 1201م) رحمه الله.
خرج قوم من قريش إلى أرضهم وخرج معهم أعرابي، فأصابتهم ريح عاصف يئسوا معها من الحياة ثم سلموا، فمنهم من تصدق ومنهم من أعتق، فقال الأعرابي: اللهم إني لا أملك شيئا ولكن امرأتي طالق ثلاثا لوجهك الكريم.
***
وقعت مظلمة على أهل مدينة ذائعة الصيت في مجال الحماقة في أيام الرشيد فأوفدوا إليه شيخا لهم، لم يكن فيهم أعقل منه ولا أكمل؛ مع ابنين له معروفين (عندهم) بالعقل والكمال، فلما وصلوا وأذن لهم دخل الشيخ فقال: السلام عليك يا أبا موسى، فعلم أنه أحمق وأمره بالجلوس، ثم قال: أحسبك قد طلبت العلم وجالست العلماء؟ قال: نعم يا أبا موسى، قال: من جالست من العلماء؟ قال: أبي، قال: وما كان يقول في عذاب القبر، قال: كان يكرهه، فضحك الرشيد ومن حضر. ثم قال: يا شيخ من حفر البحار فيما سمعت؟ فسكت الشيخ، فقال أحد ولديه: قد حفرها موسى، قال: فأين طينها؟ فقال الولد الثاني: الجبال، فضحك الرشيد وفرح الشيخ بجواب ولديه، وقال: والله ما علمتهما، ما هو إلا إلهام من الله تعالى فله الحمد.
***
وفد ثلاثة (آخرون) من أهل المدينة ذاتها على الرشيد أيضا، فدخلوا تباعا فرأى أولهم غلاماً على رأسه فظنه جارية، فقال: السلام عليك يا أبا الجارية، فزُجر وأخرج، فدخل الثاني فقال: السلام عليك يا أبا الغلام، فزُجر وأخرج أيضا، فدخل الثالث فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ففرد عليه السلام وأذن له في الجلوس. ثم قال له: كيف صحبت هذين الأحمقين؟ قال: يا أمير المؤمنين لا تتعجب منهما فإنهما لما رأياك بهذا الزي ورأيا لحيتك طويلة قدرا أنك أبو فلان، فقال الرشيد: أخرجوه، قبح الله قوما هؤلاء خيارهم.
***
تذاكر قوم قيام الليل ومعهم أعرابي، فقالوا له: أتقوم الليل يا أبا أمامة؟ قال: أي والله! قالوا: فما تصنع؟ قال: أبول وأرجع أنام.
***
تذاكر قوم من نزار واليمن أصنام الجاهلية، فقال رجل لهم من الأزد: عندي الحجر الذي كان قومي يعبدونه، قالوا: وما ترجو به؟ قال: لا أدري ما يكون.
***
كان قوم يتذاكرون الآداب والأخبار وسائر العلوم، ومعهم شاب لا يخوض فيما يخوضون فيه سوى أنه كان يقول: رحم الله أبي، ما كان يعدل بالقرآن وعلومه شيئا! فكانوا يرون أنه أعلم الناس بالقرآن، ثم أنشده بعضهم مرة قول ابن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** كما لاح مبيض من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وسأله في أي سورة هو؟ فقال: سبحان الله! من لا يعرف هذا؟ هذا في {حم عسق} فقالوا: ما قصر أبوك في أدبك! فقال لهم: أفكان يتغافل عني كتغافل آبائكم عنكم؟!