
ظرافات وظرفاء (41) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
في مطلع شبابي (1984 تحديدا) عملت “وگافا” في محل للبيع بالتجزئة بانواذيبُ وكان من جيران المحل فتية سنغاليون يصنعون الكوانين. (لِفْرِنْ) كان الفتية ثلاثة أو أربعة، وكانوا بمثابة توائم متطابقة. وفي أيامي الأولى هناك طلب مني أحدهم شايا وخبزا وفحما ونعناعا وما إلى ذلك؛ ملتزما أن يدفع الثمن بعد ساعة، فسلمته ما أراد خجلا من “العار” بشيء حقير (حسب تصوري الذي جئت به معي).
ذهب الشاب بالبضاعة ومضى يومان أو ثلاثة دون أن يعود، ولم أتمكن من تمييزه من بين الفتية، ولم أر السؤال صوابا لإمكان الإنكار لو علم المعني أني لا أعرفه بالضبط، ولست مأذونا بما فعلت، ففكرت في طريقة لاستعادة ما تسببت في ضياعه.. كان المتجر في الطريق بين مسكنهم ومعملهم، فارتأيت أن أُحِدَّ النظر إلى من مر منهم دون أن أنبس ببنت شفة. مر الأول والثاني فنظرت إليهما باهتمام دون أن يؤثر ذلك فيهما، ثم مر الثالث فنظرت إليه فأغضى هنيهة ورد بصره إلي فوجدني ما زلت أنظر إليه، وبعد ما توارى عاد إليَّ سائلا: “انياتَه لالَ أمَلْ؟” (بكم تطالبني؟) فأخبرته فقضاني وذهب لحال سبيله.
في صيف عام 1986 عملت في المكان ذاته مع صديق لي بينما ذهب رب المال إلى أهله بالبادية، وكان من زبنائنا أحد أفراد البحرية الوطنية استدان مني أنا مبلغا مهما بالنظر إلى كونه من مال الغير، وذهب في دورة تدريبية إلى جزر الرأس الأخضر قبل أن يدفع، وأحضر أمه التي تعهدت بأن تقضيني عنه، وبعد فترة قصيرة سمعت نعيه!
كانت أمه جارة لنا، وكانت من نوع خاص من البشر؛ فهي سريعة الغضب بطيئة الرضى، وعندما ما تغضب لأي سبب (حتى لو كان مما يجري داخل بيتها) تخرج إلى الشارع وتمكث فيه ما شاء الله وهي تصخب بما أرادت.. لذا كنت أتجنبها ما استطعت، وطبيعي أن لا أتقاضاها حرصا على السلامة منها، وها قد أصبحت المرجع الوحيد للموضوع!
كان زميلي قد سبقني إلى المهنة وخَبَرَ دهاليزها فاستشرته فيما أفعل في هذه النازلة، فنصحني بتذكيرها؛ موضحا أن من الناس من يسهل الاقتضاء منه عند المصائب خلافا لباقي الزمن.
قررت أن أذهب إليها معزيا وأرجئ ذكر الدين إلى وقت لاحق. سلمت بالباب فدعيت إلى الدخول فدخلت. وجدت أشخاصا لا أعرفهم ولم أر ما يلفت الانتباه، وكانت المرأة تنظر إلي باستغراب ولسان حالها يقول: “الجاك ما گط جاك سولُ أخبارُ؟” فاختصرت الوقت بكلمة حرصتْ هي – جزاها الله خيرا- على تبكيتي وتفنيدي ومقاطعتي بعد كل جملة منها.
قلت – تمهيدا للتعزية- إن رزق الإنسان وعمره محددان سلفا، فقالت: “ما اتگولهَ الراصك اصه أتهنَ عند أهلك؟! جاي تربع من الگبله.. مغلَ اعليك الفظه!” وجرى نحو هذا مرة أو مرتين فلم أر فائدة من الكلام وأردت ذكر الدين دون تأجيل ليكون وقوعي في المحذور مرة واحدة لا مرتين، فقلت لها: إن بيني وبين ذلك المرحوم ما تعلمين. قاطعتني قائلة: “أح يذيك المحفوظ! تعرف عنك تتكحل ابلعمَ ألا بيه.. انت أكحل من سيمامَه ال توكل أولادها”! فختمتُ بالقول: المهم أن الدين إن قضي برئت ذمة المدين وإلا فهو معه حيث حل. (مشيرا إلى قبره).
بدأت المرأة الصخب فخرجت لا أبصر شيئا من شدة الخجل، وخرجَتْ هي في أثري إلى الشارع على عادتها.. وبعد دقائق دخلت علي فقاطعت نفسها حتى سألتني: بكم تطالب فلانا؟
كنت قد علمت أن من فقه التجارة أن لا يجيب الدائن إلا بعد النظر في الدفتر أو في أي شيء مكتوب، حتى لو كان يعرف المبلغ بالضبط، وأثناء استخراجي للدفتر خرجت المرأة لتوزيع إزعاجها من الشارع ثم عادت فأخبرتها بالرقم فسلمتينه وبقي كسر عادت بعد قليل فرمتني به قطعا معدنية. كل ذلك وهي تصخب وتمدح نفسها وتذم غيرها.
بعد أيام علمت أن الرجل حي يرزق، فلاحظت قول المرأة: “المحفوظ” حين قلت: “المرحوم” ففهمت أنها لا علم لها بالخبر الكاذب الذي سمعته، وعجبت من لطف الله بي، وحمدته على أنها لم تصغ إلى كلامي ولم تهتم به! ودارت بي الأرض حين قارنت ما صدر منها وهي لم تتحقق إلا من المطالبة بدراهم معدودة بما سيكون لو سمعت ما قلت!
أتَقَوَّلُ الموت على ابنها وهي تراني عدوا له وأنا – علاوة على ذلك- “أكحل من سيمام” في نظرها.. ذلك ما لم أستطع تخيل نتائجه!!!