
ظرافات وظرفاء (40) / / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
حين يجد الجدُّ قد لا تنفع الحيلة والدعابة، ولكن من طُبِع على النوادر والنكت يبحث عن طريق النجاة بوسائله الخاصة حتى يهتدي إليها من حيث لا يهتدى إليها في العادة.
من ذلك أن المهدي عاقب أبا دلامة زند بن الجون الأسدي (ت 161هـ/ 777م) على شرب الخمر بإرساله إلى جبهة الحرب لمقاتلة الخوارج مع قائده رَوْح بن حاتم المهلَّبيّ.
حاول أبو دلامة التخلص بمختلف الوسائل فلم يستطع؛ بل أصر روح أن يكون قريبا منه، ليرميه في أتون أول معركة تشب. فلمّا التقى الجمعان، التفت أبو دلامة إلى المهلَّبيّ وقال له مدفوعا بغريزة حب التملك: لو أن سيفك هذا بيدي، وفرسك هذه تحتي، لفعلت بالأعداء ما يرضيك.
(ولم يكن يعتقد أن القائد يمكن أن يتخلَّى عن سلاحه وفرسه بسهولة) فنزل المهلبي بسرعة عن فرسه، ونزع درعه وسيفه ودفعهما إلى أبي دلامة، وجيء إليه بسلاح وفرس آخرين.
حاول أبو دلامة التخلص من هذه الورطة، فقال للقائد: لديّ ثلاثة أبيات أودّ أن تسمعها.
قال القائد المهلبيّ: هاتها. فأنشد أبو دلامة، وأوصاله ترتجف ذُعرا:
إني استجرتُكَ أن أقَدَّمَ في الوغى ** لِتطاعُـنٍ وتنـازلٍ وضِرابِ
فَهَبِ السُّيوفَ رأيتها مشـهورةً ** فتركتُها ومضيـتُ في الهُرَّاّب
ماذا تقول لما يجيء وما يُـرى ** من واردات الموتِ في النُّشّابِ؟!
لم تغير الأبيات موقف ابن حاتم. وفي تلك الأثناء جال مقاتل من الأعداء بين الفريقين يدعو للمبارزة، فأمر المهلبي أبا دلامة بالخروج إليه.
تلكّأ أبو دلامة، وحاول عدول القائد عن قراره دون جدوى، وهنا قال: إنه أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنا جائع، فَمُرْ لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر له القائد برغيفين ودجاجة.
أخذ أبو دلامة الطعام وتقدّم إلى الفارس المعادي الذي كان شاهراً سيفه استعدادا لقتل من يبرز إليه، ولكن أبا دلامة أغمد سيفه حين اقترب منه، ثم قال له:
– أتقتل من لا يقاتلك؟
– لا.
– أتقتل رجلاً على دينك؟
– لا.
– إذن لماذا برزت لتقتلني؟
– اذهب عنّي إلى لعنة الله! إن لم تكن تريد القتال فلماذا برزت؟
– لا أذهب قبل أن أكمل حديثي.
– هات ما عندك.
– هل بيننا عداوة أو ثأر؟
– لا.
– هل بين أهلي وأهلك عداوة أو بغضاء؟
– لا.. بل إني لا أعرفك، فانصرفْ جزاك الله خيرا.
– لا أنصرف قبل أن تأكل من هذا الزاد الذي معي، لتكون بيننا مودّة ومؤاكلة وعشرة.
قرّب الفارس جواده من جواد أبي دلامة وطفقا يأكلان من زاد أبي دلامة، بينما كان الضحك قد سيطر على الجيشين، دون أن يسمعا ما دار بينهما فيعرفا كنه ما جرى بالضّبط.
بعد الطعام ودع أبو دلامة قرنه بالقول: إن قائدي أحمق فإن برزت مرة أخرى عاد فأبرزني إليك، فلا تبرز للقتال، وهو ما استجاب له الرجل.
عاد كل من الرجلين إلى صفوف جيشه، وبعد هنيهة برز فارس آخر فأراد روح إبراز أبي دلامة إليه فقال له: أنا قد كفيتك قرني، فمر غيري يكفك قرنه كما كفيتك، فقال القائد بحزم: اخرج إليه.
فرمى أبو دلامة سلاحه ونزل عن فرسه وقال:
إني أعوذ بـرَوْح أن يقدّمنـي ** إلى البِراز فتخزى بي بنو أسـد
إن البِـراز إلى الأقران أعلمـه ** ممّا يفرّق بيـن الرُّوح والجسـد
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لهـا ** وأصبحتْ لجميع الخلق بالرصدِ
إنّ المهلّب حُبَّ الموت أورثكـم ** وما ورثتُ اختيار الموت من أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجُدْتُ بها ** لكنهـا خُلقـتْ فـرداً فلم أجُـدِ.