ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (13) / د. محمدو ولد احظانا

حكاية الأربعة: الماء، والنار واللبن، والعافية

“قيل لكم، ما قيل لكم”:

إن أربعة اختلفوا أيهم الأفضل؟ وهم:
الماء، واللبن، والنار، والعافية (السلم).
ولما استفحل الخلاف بينهم اتفقوا على الاحتكام إلى القاضي، وما قال الماضي ماض.

****
دخل المتخاصمون الأربعة إلى القاضي فأمرهم أن يقفوا صفا، ويعرض كل واحد منهم حجته كاملة، فإذا انتهى عرض الثاني حجته:
قال الماء:
– السيد القاض، أنا أفضل من الثلاثة المتخاصمين معي على الأفضلية، لأنه لاحياة لنبات ولا حيوان ولا إنسان إلا بي. أنزل من السماء وأسيل على الأرض، وأنتشر في البحار والأنهار والجداول والغدران وتحت الأرض، فأروي النباتات، ويشرب مني الطائر، والدابة والإنسان، و يعيش في أحشائي السمك والحيتان، وتنتقل الجواري على ظهري، وينبت النبات والأشجار المثمرة وغير المثمرة مني، فيسمن الحيوان إذا أكل النبات، ويلد فيكون منه اللبن، ومنه اللحم الذي يأكله الإنسان، ويشربني العطشان من كل شيء فيحيا وينتعش وتربو الأرض وتنبت من كل زوج بهيج، ولا يطفئ النار إذا اشتعلت وأحرقت الأخضر واليابس والميت والحي إلا أنا. ولذا فأنا أفضل من اللبن والنار والعافية.
سأله القاضي:
-أنهيت حجتك؟
– أنهيتها.
أجلس هناك جانبا. تفضلي أيتها النار.

****
قالت النار:
– أنا الأفضل سيدي القاضي، لأنه لولاي ما أضيئت ظلمة، ولا تدفأ كائن من البرد، ولا أنضج الناس طعاما، ولا اهتدى ضائع.
فقال لها القاضي:
– هل أكملت حجتك؟
قالت:
– نعم سيدي القاضي.
قال لها اجلسي هناك إلى جانب الماء. وتفضل أنت أيها اللبن.

****
قال اللبن:
السيد القاضي، أنا لم أدع الأفضلية عبثا، فمن وجدني ارتوى وشبع، فلا حاجة له إلى ماء يشربه ولا إلى طعام ينضجه على النار. وأنا نازع الشهوات، ويتايمن بي، وطعمي لذيذ، ولا إدام إلا بي، سواء كان حليبا طازجا أو رائبا حامضا، أو ظليما سائغا، أو كانت منه زبدة أو دهن مصفى. فأنا إذن أفضل من الماء ومن النار.؛ بل من الجميع.
قال له القاضي: هل أنهيت حجتك أيها اللبن؟
قال:
– نعم سيدي القاضي.
فقال له القاضي:
– اجلس إلى جانب خصومك، وتقدمي أنت أيتها العافية بمرافعتك.

****
قالت العافية:
– سيدي القاضي، أنا الأفضل لأنني أنشر الأمن والإخاء بين الناس والحيوان، فيعيش الجميع في سلام وتعاون، سواء كان حيوانا أو بشرا سويا. ولولاي لنشبت النزاعات وعمت الفوضى، وقلت الأرزاق، وارتفعت البركة، ولم ينتفع أحد لابماء، ولا بنار، ولا بلبن. والحكم حكمك بعد ذلك سيدي القاضي.

****
اصطف المتقاضون الأربعة واقفين كما أمرهم القاضي بعد أن أنهوا مرافعاتهم فنطق القاضي بحكمه قائلا:
– حيث إنك أيها الماء صادق في ما ادعيته من فوائد كثيرة، إلا أن لك عيوبا، منها: أنك إذا غضب جرفت الإنسن والحيوان والنبات والأشجار، لاتميز بين بريء وظالم، فتخرب سيولك كل موجود على وجهها، وأنت تغرق السفن الجواري بموجك الهائل، وتهلك وتترك الأرض خرابا يبابا؛
وحيث إنك أيتها النار صادقة في ما ذكرته من فوائد، إلا أنك غضوبة غاشمة، حادة المزاج، لاتبقين ولاتذرين.. فأنت تحرقين الأخضر واليابس، وتقتليت البريء، وتهدمين البيوت على رؤوس ساكنيها، وتلتهميت المزارع التي تعب الفلاحون المساكين في تعهدها، وتلتهمين الأشجار المثمرة والمراعي فتتركين أهلها جياعا فقراء؛
وحيث إن ما ذكرته أيهاو اللبن من فضائل صحيح؛ إلا أن فيك ما يقال، فأنت صعب المنال، توجد في الدابة المتشيطنة، والنزور، والناطحة، وتنعدم أغلب الفصول من ضروع الدواب، فأنت محفوف بالصعوابات والمكاره؛
وحيث إنه مالم توجد العافية فلن يوجد ماء إلا بعد صراع دموي، ولا نار لإنضاج طعام أو دفء إلا بحرب، ولن توجد دابة تدر اللبن، لأن النهب يعم..
فإنني أحكم:
بأن العافية أفضل منكم جميعا، لأنها هي التي بها توجدون، وهي التي بدونها تنعدمون أو تنعدم فائدتكم، ويعم ضرركم على أرض الله.

****
“..ورجعت أنا سالما أحدث أهلي بترافع هؤلاء الأربعة أمام القاضي، دائرا عن دائر.”

م. أحظانا


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى