ثقافة

لخصار.. المرأة الغريبة الأطوار – قصة قصيرة

وكان المال يجري وراء “لخصارة منت الخوماني” أينما ارتحلت، وما حلت بأرض إلا تحولت الى سوق، وتزايد فيها ضجيج الباعة وأطمأت النفوس الى الخير، ونام الفقراء وفي خزائنهم دقيق وسكر وشاي.
ولكنها كانت غريبة الأطوار، فما تزوجها رجل إلا هلك، وما رحلت عن أرض إلا حل بها خراب لم يعرف له مثيل.
وكان ان شوهدت في حينا يوما “تسوم” قطعة أرض، فأمسك “الشيخاني ولد التفسير” شعر رأسه وقال:
– ياويلكم.. لقد جاء الخير الى هذه الأرض، وويل لمن يطول به الزمان بعد رحيل هذه المرأة الى أرض جديدة.
وكان الشيخاني حاذقا في الأمور تاجر في سيليبابي وكيفة والطينطان، وكان عليما بالناس، يتحدث بألسن ولغات لا تخطر على بال أحد، وكان يعرف تاريخ مدينتنا كما يعرف خطوط يده.
وكان ان حكى لنا، حكاية تلك المرأة التي لا يبين منها الا عينان صافيتان، وأنف صغير “مخطوط” وكانت قصيرة تلبس جوارب، وكانت ناعمة اليدين ولا تتحدث الا لمن يهمه الأمر.
وقال الشيخاني وهو يرتشف كأسه من البراد الاول:
– انها “لخصارة” وما أدراك ما لخصارة.. تركها أهلها عند أخوالها في البوادي أيام الجفاف، وجاؤوا الينا -وكنا في “القديمة”- وعيونهم جاحظة، بعد ان هلك “الحيوان” وكانوا يقتاتون على عطايا المحسنين ومداخيل محل صغير يؤجره والدها، وعاشوا ويلا تحدثت به المدن والقرى حتى جنحوا للإرسال في طلبها.
وكنا في ملئ من الرجال إذ قال والدها وكان طويلا أجعد الرأس، يبيع الفستق :
– والله ما كسدت تجارتنا الا بسبب تلك البنت، وانها لتأتيني في المنام تمسح على رأسي، وانها لتناديني باسمي، وان عيني اليسرى لترتعش منذ أيام، وانها لأمارة خير.
وبعد أيام جاؤوا بها من البوادي وكانت ممتلئة القوام، نضرة الملامح، كأنها قادمة من الجنة، وليس أدغال الشرق حيث ضرب الجفاف الأخضر واليابس.
وضاقت “سوق القديمة” على والدها فنصحوه بشراء محل صغير في “الجديدة” كانت تجلس فيه “لخصارة” مساء كل يوم، فلم يدر العام حتى احترق “سوق القديمة” حريقا اهتزت له القلوب، وضاعت فيه أموال الرجال، ولبست القلوب حدادا لأشهر لم يفيقوا منه حتى ازدهرت سوق “الجديدة”.
وتنهد الشيخاني وهو يستلم كأسه الوسطاني:
– ولم يكن شخص ليتصور ان دكانا لبيع الفستق في “الجديدة” سيكون سببا في الخير الوفير على والدها، الذي عمرت تجارته فباع محله وبات يتاجر في العقار، وانتقل من “الجديدة” الى “تويميرت” وبنى البيوت واشترى الأراضي، وبات رجال الحكومة يزورون بيته ويسمعون مشورته.
ورغم ان “تويميرت” كانت مصب مجرى المياه التي تعبر المدينة، ولا قبل لها بالأسواق قبل ذلك، فلم يمر عام حتى رفعت البنايات في “التويميرت” وبدأت سوق جديد تزدهر، ولم يبق تاجر ولا سمسار الا هاجر الى السوق، واشترى فيه قطعة ارض وبنى فيه محلا، ولم يطل بهم المطاف حتى باع أهل “لخصارة” ارضهم قرب السوق واصبحوا من الأثرياء..
وما ان رحلوا حتى توقفت السوق كأنها كانت جنونا في غير محله، ولا تزال السوق خاوية على عروشها ومحلاتها غير المسقفة الى اليوم شاهدة على مرحلة ازدهار لم تكتمل.
وصمت الشيخاني صمتا طويلا وهو يدقق في كأسه “التالي” كأنه لا يريد للشاي ان ينقطع.. قبل ان يفتح فمه:
– وكان ان سمع بها “السلامة ولد جعفر” وكان من أغنياء مدينتنا فطلب يدها وتزوج بها في عرس مشهود، ولم يكمل سنين ثلاث حتى تحول الى حطام وانجب منها “لمات” وهو طفل ولد مشلول اليد و”اللهاه” وكان “مجذوبا” و”صالحا من الصالحين”.
ونودي على “السلامة” ذات يوم لحضور مجلس قبلي، فتأخر، وعندما أرسلوا شخصا في طلبه، وجدوه قد رحل الى مثواه الأخير، فورثت منه العقار والتجارة وباتت من أغنى ما عرفته المدينة، وما تزوجت بعده الا غنيا، وما تزوجها غني الا مات، لترث منه خيرا عظيما، حتى قيل في المدينة ان لخصارة ما “تخلطت” مع شيئ الا أكلته لحما ورمته عظما.
وعندما ظهرت “لخصارة” في حينا، لم نعرف هل نفرح لمجيئها، ام نستبق المواجع ونبكي على يوم رحيل يلوح لنا في الأفق، وكنا نتابع أخبارها، فكانت لنا ثقة لا يستهان بها في “الشيخاني” فكان لا يكذب، وكان لطيفا مؤتمنا رحيما ذا خلق رفيع.
ولم يطل الوقت حتى شيدت بيتها العظيم قرب بيتنا، وكنت أترصدها لعلي أظفر ببعض من حظها العظيم الذي تحكي عنه المدينة.
وذات يوم نادتني باسمي، وكنت أقف غير بعيد من بيتها، وكان الوقت مساء وقد خفت حركة العمال، وامتد البيت قيد البناء كأنه قلعة محصنة، وقفت فيها لوحدها تتعقب أخطاء العمال بدقة لا مثيل لها.
فأعطتني مائة اوقية وقالت بصوتها العذب الذي لم أسمعه من قبل:
– وانتم تلعبون قريبا من بيتي، راقبه بطرف عينك، فاذا رأيت العمال يفسدون الإسمنت والتراب، ابلغني في المرة القادمة، ومسحت يدها على رأسي..
وعندما انصرفت عنها أعجزني صرف المائة أوقية، فكلما اشتريت شيئا جاء أحدهم ليدفع عني ثمنه، حتى ظلت في جيبي أسبوعين، فناداني عمنا “الحافظ ولد المصطفى” فجأة وقال:
– رأيت عندك مائة أوقية فمن أين لك بها؟
ولما لمس مني مراوغبة وقلة وضوح، قال بحزم:
– إعطني إياها..
وأعطاني بدلا منها حذاء جديدا من “سيمار” ظل في قدمي حتى أكمل حولين وهو يلمع.
وكان الشيخاني يحلف بالأيمان المغلظة ليتحولن حينا الى سوق، وكنا نضحك ونقول:
– ومن سيحول “التميشة” الى سوق، إنها أرض يباب، جرداء قاسية من حجارة، وهي في أطراف المدينة فلا تجارة فيها ولا خير..
ولم نعلم حتى استيقظ محمد ولد ابيليل ذات يوم -وكان واليا علينا- وحلف أيمانه ليطردن جميع مناطق تجمع سيارات النقل من شوارع المدينة، وليجمعنها في منطقة “التميشة”.
وكانت تجمعات السيارات حولت المدينة الى أوساخ وزحام، وكان جمعها في “التميشة” قرارا لا يخطر ببال أحد.
وسرعان ما سوي جبل من الحجارة الصفراء بالأرض، ودهست عجلات السيارات رباعية الدفع الشوارع فبسطتها، ونقلت كل نقاط السفر وتجمعات النقل الى البوادي والقرى لمنطقتنا.
ولم ينتهي العام حتى سويت الأرض وشقت الطرق وشيدت المحلات وانتعشت التجارة في حينا، ولا يسافر بشر من مدينتنا الا مر بشوارعنا في طريقه الى ذلك السوق الكبير الذي يرتفع على حطام مرتفع التميشة.
وكانت “لخصارة” من أوائل من بنى محلات وحجز اراض في ذلك المكان الذي ما عرفت احياء المدينة رواجا مثل ما عرفه في تلك السنين.
وكنا اشترينا قطعتنا الارضية بثلاثين ألفا من الاوقية، ايام الرخص قبل مجيئ “لخصارة” حين كان الحي فقيرا، وفي موجة الغلاء “سامها” تاجر بست ملايين.. فضحكنا وحسبناها أمارة خير وفضلا ساقه الله الينا.
واستيقظنا ذات يوم على رحيلها، فصرخ الشيخاني صرخة شهيرة وقال:
– ارحلوا عن هذا الحي فانه مقبل على الموت والخراب..
ولم نرحل لكننا شهدنا دمار السوق الكبير الذي كان يزوره الآلاف، ولم يكن ينام حتى ساعات متاخرة من الليل.
وبعد عام على وفاتها، لم يبقى في تلك السوق الا القطط والكلاب السائبة، وخلت بنايات الشرطة والمحلات، واذا صرخت فيه عاد لك الصوت، ولم يعد يزوره زائر.

من صفحة الإعلامي: الربيع ادوم


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى