من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (11) / د. محمدو احظانا
حكاية ابّاهات الثلاثة وشوكة العين
“قيل لكم في ما قيل لكم”:
إن رجلا من سكان جنوب البلاد، كان يقطع أغصانا من شجرة طلح عالية لجديه وخرافه حتى يأكلوا الأوراق الطرية،
ولقوة ضربات فأسه طارت شوكة من أحد الأغصان وغابت في بؤبؤ عينه.
ذهب الرجل إلى حكماء الأحياء المهرة المجاورين وغير المجاورين، لكنهم لم يروا أي شيء في العين المصابة.
عانى الرجل من آلام ممضة حتى أصابه الأرق وأنهكه الألم. وذات يوم مر به رجل تاجر من أهل الساحل (الشمال)، فقال له:
– إذا كنت تريد أن تشفى من وجعك فاذهب إلى “اباهات” في تيرس، وسيعالجونك.
****
أخذ الرجل زادا ورفيقا، وركب جملا نجيبا، وأردف رفيقه، ولم يزل الجمل يقطع بهما المهامه والسهوب والأحقاف والفيافي، ويتجاوز الهضاب والجبال، ويسائل الركبان والأحياء حتى ورد بئر قندوز فذكر له الوراد أن الحي الذي يوجد فيه اباه الصغير يبعد مسيرة ثلاث ليال للراكب في اتجاه الشمال الشرقي من حيث تطلع الشمس.
****
سار الرجل ثلاثة أيام حتى وصلا الحي فسألا عن اباه الصغير. دلهم أهل الحي على خيمته الكبيرة، فلما نزلوا بها وجدوه شيخا منهدما، يحزم حواجبه بعصابة من قماش ناعم، ولما سلموا عليه سألهم عن حاجتهم وقد أحاط به أبناؤه وبناته وأحفاده وأسباطه، بعد أن قدموا لهم القرى.
طلب اباه الصغير من الرجل أن يقترب منه، وفتح عينه المصابة ونظر فيها مليا فقال له:
– رأيت جرحا في البؤبؤ.. لكن اذهب إلى اباه الأوسط، فهو أبصر مني.
وأمر أحد أبنائه أن يهديه إلى حيه الذي يبعد مسيرة أربع ليال في الشمال السمتي.
****
سار الرجال الثلاثة حتى وصلو إلى حي اباه الأوسط، ونزلوا بخيمته ولم يجدوه في الحي لأنه ذهب عصرا نحو قطيع اللقاح ليعيده إلى الحي.
وبعيد المغرب إذا باباه الأوسط يسوق اللقاح. كان كهلا قوي البنية أشيب لم يحدودب بعد، ولما أعلموه بالضيف جاء يسأل:
– كيف حال الأضياف، مرحبا بهم؟
فأقبل عليه حفيده مهرولا وأحنى له رأسه فوضع يده على منكبه وهزه قائلا:
– شجرتك هشة كأبيك. كيف حاله؟
– في أقصى مراحل الضعف.
– أضر بنفسه.
– كيف حالكم أيها الضيوف الكرام، هل أنتم ممن يأكل اللحم بالليل كالسباع؟ يمكن أن ننحر لكم.
– لا نأكله.
– من أي بلاد الله؟
– من القبله.
– أمر أحد أبنائه أن يأخذ قعب الإبل ويتبعه فحلب لهم من لقاحه حتى ارتووا.
سألهم اباه الأوسط وهو يطلب منهم أن يزيدوا من شرب اللبن:
– ماذا جاء بكم من “القبالة”؟
فأجابه الرجل المصاب:
– لقد سمعت بحكمة اباهات، وقدمت عليكم في هذه الأرض حتى تعالجوني من شوكة طلح أصابت بؤبؤ عيني وغابت فيه، ولا أنام من ألمها إلا قليلا. وقد قال لي اباه الصغير إنه رأى جرحها وأمرني أن أذهب إليك.
أمر الرجل أحد أحفاده أن يوقد نارا أمام الخيمة وفتح عين الرجل ونظر إليها نظرة خاطفة، وقال له:
– ثمة شوكة يختلف لونها عن البؤبؤ، لكن من الأفضل لك أن تذهب إلى اباه الكبير، فهو أكثر مهارة مني.
في الصباح نحر اباه الأوسط جذع إبل وأطعم منه ضيوفه وأمر أحد أبنائه أن يرافق المصاب حتى يوصله إلى محلة اباه الكبير، وهو على بعد أربع ليال شمالا.
****
انطلق الرجال الثلاثة كل على جمل والنجائب تستف بهم المسافات حتى جاؤوا إلى قلتة يسقي فيها اباه الكبير إبله كما قال لهم حفيده إنها مظنة له.
وجدوا رجلا قد استوت فيه الطبائع الأربع، وهو ينوش بعيرا فقدروا أنه أحد حفدة اباه الكبير، لأن لمته سوداء كلها، وكان في تقدير الضيوف بين الأربعين والخمسين.
سأل الرجل الضيف عن اباه الكبير فقالوا:
– هو ذلك الذي ينوش البعير.
تعجب الرجل أشد العجب وقد أطاح اباه الكبير بالبعير ونادى على أبنائه أن يأتوه بالمياسم حتى يضع علامته على البعير.
كان متربعا على كتف البعير وقد أمسك بمشفريه لاويا عنقه بسهولة، وأخذ أبناؤه في تثبيت قائمتي البعير الخلفيتين ووضع العلامة على فخذه الأيسر.
أقبل اباه الكبير إلى حيث الضيوف وسأل الرجل المصاب:
– ما حاجتك؟
فأراد حفيده أن يجيبه، فقال له اباه الكبير:
– لم أسألك.
فأجابه الرجل المصاب بحكايته:
قال له اباه الكبير:
– انظر إلى فاتحا عينيك.
فلما نظر فيها قال:
– مد رجلك واصبر لحظة.
مد المصاب رجله وهو يتساءل:
– ما علاقة العين بالرجل؟
فقال له اباه وهو يطبق قبضته على أسفل ساقه:
احبس أنفاسه ويشد على عرقوبه بقوة هائلة، حتى زال عقل الرجل وطارت الشوكة من عينه بعيدا.
لم يلبث المريض أن نام من فوره.
أمر اباه الكبير أحد أبنائه أن ينحر ابن لبون من الإبل. وأخذ كليته حامية وشقها ووضعها حامية على عين الرجل وهي مغمضة..
انقضت ساعتان فاستيقظ الرجل وقد زايله الألم.
أمره اباه أن يأكل من سنام النحيرة وكبدها نيئين حتى يكتفي. فلما فعل قال له اباه الكبير.
– برئت. وسنقيم عليك ثلاثة أيام حتى يكتمل التئام جرحك.
لما انقضت ثلاثة أيام وحان وقت الوداع سأل المريض اباه الكبير:
– لقد عالجتني جزاك الله خيرا لكنني محتار في أمر واحد وهو أن حفيدك اباه الصغير شيخ مهدوم، واباه الأوسط كهل وخط الشيب رأسه، وأنت رجل تبدو أصغر من حفيدك وابنك بكثير؟
– تبارك الله. أقول لك ما يشفي غليلك:
أما حفيدي فقد ذهب به االنزق والفضول حتى وصل آدرار التمر وقضى فيه خمس سنوات فهدمته القباله، وأما اباه الأوسط فقد أقام بزمور وجباله سنوات فصار إلى ما صار إليه من تقدم نسبي في السن، فقد بلغ مائة وثلاثين سنة فقط، بينه وبين حفيدي اباه الصغير تشرين سنة.
أما أنا فبيني وبين اباه الأوسط ثماني عشرة سنة.
– لو لم أشاهد ما قلت لي ما صدقته، وقطعا لو حدثت به لما صدقني أحد.
****
وربطت أنا نعلي، ورجعت عنهم سالما إلى أهلي أحدث بالحكاية دائرا عن دائر.
م. أحظانا