ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (33) د. محمدو احظانا

أم الروايات
حكاية امرأة أهل الساحل غنيه، والفصيل البشري

قالت الراوية:
“راعِ ذاك أكِلالْ
الْفوكُ ذرْكْ اِظلالْ
لِمْواجِهْ -يالدّلاّل-
في الطّرْحَه من ساحل
فوْكُ كان أنوال
اخيام أهل الساحل.
(لبتيت الناقص)

الفصل الأول

حدثتني شيخة طاعنة في العمر من أهل الساحل، ينضح حديثها صدقا:
أنها كانت معنية بتسمين بناتها حتى لاتفوز عليهن بنات عمهن بحسن الحال.
وكانت لديها نوق تحلبها لهن، قد استبقتهن في الحي عن عترة الذود التي ذهب بها راعيها شمالا إلى خصب “الجويات”.
لكن نوقها المسبقاة أصبحت حوائل، فجفت ضروعها، أو كادت، مما حتم عليها أن تبحث عن رسول تكاريه، وإلا، تذهب هي بنفسها إلى راعي ذودهم الذي يوجد بعيدا في أرض تيرس البكماء.
وعليه، بعد ذلك، أن يفرد لها نوقا ناتجة من الذود، يسوقها لها، ويعود بالنوق الحوائل إلى الذود.

الفصل الثاني

انتظرت السيدة أن يعود زوجها من غيبته ولكنه أبطأ أكثر مما توقعت، وأطول مما تستطيع البنات الصبر عنه؛ ولم تجد من تكاريه، فحسمت أمرها، وأخذت جملها الذلول “السبيعي”، وشدت عليه هودجها، وحملت زادها وقربة مائها وظليم لبنها في ركوتها.. و وخرجت وهي تنشد في نفسها:
-أين أنت ياذود “الجويات”؟!!

الفصل الثالث

أطلقت المرأة العنان لجملها النجيب، الذي لايحرك ذميله ثياب راكبه، متجهة وجهة راعي ذودها على بعد مسير ثلاثة أيام وبعض ليليها.

****
كان دقيق البرد الذي تذروه شمأل تيرس بسخاء وتغربله فجاج الجبال، يسفع وجه السهل المترامي، و يشد الضلوع على صدور أهلها بوطأته، وينفذ إلى عظام الكائنات، ويخثر الدماء في عروق الأجسام، وتخدر منها الأطراف والوجوه. وتخامر العقول حتى تشعر بالذهول والخبال.
ومع ذلك لاتسمع أحدا يعطس أو يسعل من نزلة البرد لصحة الأرض.

الفصل الرابع

أقبل الليل وضياء الشمس يودع الجبال المترامية والظلام البارد يجر جلبابه الثقيل على السهوب ويرفع إزاره على الآكام والسلاسل والهضاب المتراعية..
اشتد البرد يشتد.. يشتد.. حتى كادت أنامل المرأة تتصلب على زمام جملها وعصاها مع حلول الظلام الدامس، حتى نفد صبرها وتحملها.

****
أناخت السيدة جملها، وقد مرت من الليل ساعتان بالمطالع الشامية، وتعلقت الثريا بذوائب السماء الشرقية، فرنت المرأة إلى بريق نجومها الزرقاء البهية فتذكرت الأيام الخوالي، أخذت قليلا من عصيدة “ابلقمان”، وأفردت إبريقا وثلاثة أكواب من علبتها وشايا عتيقا، وكسارة سكر، وأوقدت النار ببعض الحطب الذي كانت جلبته معها على جملها في الطريق، إذ هو جزء ضروري من الزاد لقلة الأشجار في الحومة.

****
ما كادت السيدة تأكل عشاءها وتسكب كأسها الأولى من الشاي حتى سمعت دويا بين السماء والأرض، لم يفتأ أن تهاوى منه كائن، قرب النار التي تتدفأ بها.
تحققت منه متوجسة دون أن تفزع، فلم تكن بالجبانة ولا الرعديد.
كان الكائن يملك ملامح وجه إنسان، تعاظمت حروف وجهه فعيناه أوسع من العيون، وأنفه أطول من الأنوف، وجبهته أرحب من الجباه، وفمه أوسع من الأفواه، وشفاهه أثخن من الشفاه، وآذانه أكبر من الآذان، وذقنه أعظم من الذقون، وشعره الحرير أسود من الشعر، وهامته أضخم من الهامات.. والمخيف أكثر أنه أجمل من الجمال، ومتناسق أكثر من التناسق.
لكن جسمه الآخر جسم فصيل إبل، دون زيد ولا نقص.
كان ينظر إليها دون أن ترمش عيناه أو يصرفهما عنها.
صبت له كأسا من الشاي وقدمته له، فلم يبال به، ولم ينكس نظره عنها.

****
لم تستطع السيدة صبرا على البقاء متقابلة مع هذا الكائن ذي الخلقة الرهيبة، والملامح الجميلة، والتقاسيم الأليفة.
فتركت له كأس الشاي، وحزمت مواعينها وزادها وركبت جملها الذي لم يجغل من ضيفها الغريب، ولم يتململ.
سارت مبتعدة.. موغلة في البعد.
ولم تزل تحث نجيبها حتى عضها البرد بمخالبه اليابسة المعقوفة.
أناخت جملها، وأنزلت حطبا، وأوقدت نارا، فما برحت سمعت الأزيز كما سمعته من قبل بين السماء والأرض، وإذا بالكائن يهوي قرب النار الموقدة.
عادت سريعا إلى هودجها وانطلقت مذعورة هذه المرة خوفا من الزورة الثالثة.

الفصل الخامس
هامت المرأة على وجهها لا تلوي على شيء، ولا تبالي بأمر.. وقد أخذتها سكرة الفزع وغيبوبة اليأس.

****
مع زوال الشمس ظهرا عن كبد السماء دخل بها جملها النجيب حيا كبيرا من أهلها، فميزه رجال الحي ونساؤه بميسمه، وأقبلوا على السيدة التي يعرفونها جيدا، فتنادوا:
-هذه غنية.
لما أناخوا الجمل وسلموا عليها لم ترد عليهم سلاما، وإذا بإحدى يديها متصلبة على الزمام، والأخرى متصلبة على العصا، وهي لاتصرف نفسها ولا تنبس بكلمة. عيناها جاحظتان جامدتان مثل عيني تمثال عقيق، وليس في جسمها من علامات الحياة إلا أنها تصعد النفس وتنزلها.

الفصل السادس

أنزلت نسوة الحي السيدة الصريعة غنيه، وأدخلنها إلى خيمة، هي وكفاؤها من وبر الأبل الدافئ، وأوقدوا نارا قريبة منها، ودعت النسوة عجوزا كتماسكة هي طبيبة الحومة، فأخذت مخيط حديد رفيع، ودسته في النار حتى احمر وكوت به غنيه فجاءة في كعب ساقها، فانتفضت المرأة من صرعتها، وبدأت تقص روايتها مع المسخ الأليف على النساء، وكأنها كانت تكذب بما تفعل.

قالت الراوية:
وأخذت أنا نعلي، ورجعت عنهن إلى أهلي، أبقاني الله سالمة، أحدث بحكاية امرأة أهل الساحل: غنية، والفصيل البشري، دائرا عن دائرا.

م. أحظانا


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى