محمدن ولد الرباني: ولد الشاه صال وجال حيث لا نزاع ولا جدال
ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يؤب ..
(نقاش مع الأستاذ محمد الأمين الشاه)
الحمد لله الذي عصم الشرع من التحريف، وجعل في كل زمان من ينفي عنه انتحال المبطلين وتأويل المتأولين وزيغ الزائغين.
والصلاة والسلام على رسوله الذي ألزم اتباعه في أمره ونهيه، وجعل سنته بيانا وتكميلا للقرآن، وحفظها من كل تحريف وبهتان، بنقد وتنخل الجهابذة الغران.
أما بعد فقد قرأت رد الأستاذ محمد الأمين الشاه على ما أثير حول فتواه من ردود، فألفيته ردا جميل السبك، قوي النبرة، جائش العاطفة، مستفز المشاعر، مستفتح البصائر، يسترهب الدهماء، ويستميل البسطاء، غير أنه صال وجال حيث لا نزاع ولا جدال، وهكذا اجدني مضطرا للتعليق عليه بالملحوظات التالية:
1- أن كثيرا من الذين انتقدوا فتوى الأستاذ وتعرضوا لها بالإبطال ليسوا من المقلدين الجامدين من أنصار المشهور، وليسوا من المتشبثين بروايات ابن القاسم، بل هم ممن انتهج نهج الشيخ بداه والشيخ محمد اليدالي والشيخ سيدي باب وابن عبد البر وغيرهم من أنصار الراجح حيث قام عليه الدليل، وهم ينشدون آناء الليل وأطراف النهار ما سرد من أشعار، وينشرون ما نشر في التحذير من عمى التقليد من أفكار، يدورون مع الدليل الصحيح من الكتاب والسنة حيث دار، ولذلك كان منهم من تعرض في رده عليه للجبر في النكاح بالإبطال، وهو مشهور المذهب، فهذا الحديث المتهكم على المقلدين الذي استحوذ على ثلثي مقال الرد، تحصيل حاصل وإفاضة في غير محل النزاع.
2- أن الأستاذ نسب قولا صريحا إلى ابن القاسم، والمنقول عنه بخلاف ما ذكر، إذ غاية الأمر أن يكون تخريجا على رواية، وغير الفقيه مثلي يميز بين هذا وذاك، فكيف بمن يدرك كونه فقيها مثله؟
المطالع لكلام ابن عبد البر بتمامه في المسألة يدرك أن الخلاصة التي نقل الأستاذ مقتطعة من سياقها، وهذا نص كلامه رحمة الله عليه في الاستذكار: “وأما المرأة تجعل عقد نكاحها إلى رجل ليس بولي لها فيعقد نكاحها فقد اختلف مالك وأصحابه في ذلك ففي (المدونة): قال بن القاسم: وقف فيها مالك ولم يجبني عنها، وقال بن القاسم إن أجازه الولي جاز وإن أراد الفسخ فسخ دخل أو لم يدخل إذا كان بالقرب فإن تطاول الأمد وولدت الأولاد جاز إذا ذلك صوابا، قال وكذلك قال مالك، قال سحنون: وقال غير ابن القاسم: لا يجوز وإن أجازه الولي فإنه نكاح عقده غير الولي، وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه لا يجوز وإن أجازه الولي، وقال: والفسخ فيه بغير طلاق، وذكر ابن شعبان عن ابن الماجشون عن مالك قال: إذا زوجها أجنبي لم يكن للولي أن يجيزه وإن ولدت منه لقول النبي صلى الله عليه و سلم “أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل”، قال ابن شعبان وقد قال مالك إذا زوج المرأة غير وليها يفسخ قبل الدخول بتطليقة فلا شيء لها من الصداق، قال وقال مالك فيمن تزوجت بغير ولي ودخل بها والزوج كفء ووليها قريب فلا نرى أن نتكلم في هذا، قال أبو عمر –هو ابن عبد البر- ما رواه بن الماجشون عن مالك في ما ذكره ابن حبيب وابن شعبان هو القول بظاهر قوله صلى الله عليه و سلم: “لا نكاح إلا بولي وأيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل” وهو قول المغيرة وجمهور أهل المدينة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، وأما رواية ابن القاسم وما كان مثلها عن مالك فهو نحو قول أبي حنيفة والكوفيين و قول أبي ثور على ما وصفنا من مذاهبهم فيما مضى من هذا الباب، إلا أن بن القاسم ومن قال بقوله من المالكيين مع قولهم لا نكاح إلا بولي يجيزون النكاح بغير ولي إذا وقع وفات بالدخول أو بالطول”
يتضح من هذا الكلام أن ابن القاسم لا يجيز النكاح بغير ولي ابتداء لكنه إن وقع جعل الأمر موقوفا على ما يرى الولي، إلا أن يفوت بالدخول والطول، وهذا بعيد من فتوى الأستاذ. وقول ابن عبد البر إن رواية ابن القاسم نحو قول أبي حنيفة يعني في تساهله في العقد دون ولي إذا أمضاه، ولا يعني مطابقة الرواية لمذهب الأحناف كما هو واضح من خلال ما شرح، وهذا يعني أن ابن القاسم يعطي المفتات على الولي حكم الفضولي كما هو المذهب في البيع والطلاق، وليس في كلامه تولى المرأة العقد بنفسها، ورغم كل ذلك فهي مرجوحة في المذهب، فبان أن جعل هذه التخريجات قولا ظاهرا في المسألة تعسف جلي.
3- أن الذي كان متوقعا من الأستاذ مواصلة النقاش العلمي، وهنا أقول ببساطة: إننا سنسلم جدلا أن الآيات القرآنية غير راجحة في معنى الولاية، وأن الأصل عدمها ما لم يرد دليل كما قال ابن رشد الحفيد، لكننا نقول إن هذا الدليل ورد وهو حديثان صحيحان أحدهما “لا نكاح إلا بولي” وثانيهما “أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل” ولا حاجة لنا بسواهما مما في معناهما، فهما حديثان صحيحان لا مرية في ذلك عند الباحث في كتب التخريج، وقد أعل الأول بالإرسال ونقلنا كلام الحفاظ على ثبوت اتصاله بالعدول الثقات، فلم يعد لدعوى الإرسال معنى، ولذلك حكم له بالصحة ابن معين وابن مهدي والبخاري والذهلي وابن الجارود والضياء المقدسي وابن حجر والألباني وغيرهم ممن لا يقاوم في هذا الفن.
وأما الحديث الثاني فأعل بنسيان الزهري له وزعم الأستاذ أن مداره عليه، وليس الأمر كذلك، فإن نسيان الراوي لمرويه بعد أن ينقله عنه الثقات ليس بقادح، ومن منا لا يحدث بأحاديث ثم ينساها، وللدراقطني تأليف بعنوان “حدث ونسي”، وللسيوطي كتاب “تذكرة المؤتسي في من حدث ونسي” ورحم الله ابن حبان والحاكم فقد قالا كلاما كأنما يخاطبان به الأستاذ ومن نحا نحوه، قال ابن حبان في “صحيحه”: وقد أوهم هذا الخبر من لم يحكم صناعة هذا الحديث أنه منقطع بحكاية حكاها ابن علية عن ابن جريج أنه قال: ثم لقيت الزهري فسألته عن ذلك فلم يعرفه، قال: وليس هذا مما يقدح في صحة الخبر، لأن الضابط من أهل العلم قد يحدث بالحديث ثم ينساه، فإذا سئل عنه لم يعرفه، فلا يكون نسيانه دالا على بطلان الخبر، وهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم خير البشر صلى فسها، فقيل له: أقصرت الصلات أم نسيت؟ فقال: “كل ذلك لم يكن” ، فلما جاز على من اصطفاه الله لرسالته في أعم أمور المسلمين الذي هو الصلاة حين نسي، فلما سألوه أنكر ذلك، ولم يكن نسيانه دالا على بطلان الحكم الذي نسيه، كان جواز النسيان على من دونه من أمته الذين لم يكونوا بمعصومين أولى”. وقال الحاكم بعد أن أخرجه عن جماعة عن ابن جريج: وقد صحت الروايات عن الأئمة الأثبات بسماع الرواة بعضهم من بعض، فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية (يعني نسيان الزهري)”.
وهناك مسألة غفلت عنها في ردي السابق وهي أن الجمهور على أنه إذا خالف الراوي ما روى فالعبرة بما روى لا بما رأى، كما هو مبسوط في كتب الأصول وعلوم الحديث، لأن مخالفته له قد تكون لأمر خارج عن ثبوته اجتهادا منه، والثقات مصدقون في نقولهم، والمجتهدون مناقشون في فهمهم.
فعلى الأستاذ أن يبين عللا قادحة في الحديث لم يبينها الأقدمون، أو يفند روايات الاتصال في دواوين السنة وتصحيحات الحفاظ، أو يسلم بالحق الذي لا يكاد يشتبه فيه.
4- أنه ما من عالم إلا وله غرائب وهفوات، والعلماء بحار وأخطاؤهم أقذار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث كما قال ابن القيم رحمه الله، ومن الغرائب فعلا ما روي عن مالك من التفريق بين الشريفة والوضيعة في مسألة الولاية، وهو أمر لا يعرف عن غيره كما ذكر ابن عبد البر، فكان المناسب من مثل الأستاذ أن يبين ضعف مستند هذا القول دون تحامل، ومعلوم أن اجتهاد كل فرد يتأثر بثقافة مجتمعه وفكره وأعراف مجتمعه وعصره، وهذا لا ينقص من مكانته، كما لم ينقص من مكانة أفلاطون في الفكر الفلسفي اعتباره أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة، لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبدا، لأن الناس خلقوا غير متساوين بطبعهم، ولم يصنفهم في أي من الطبقات الثلاث، وعدهم “أدوات ناطقة من أدوات الإنتاج”.
5- أن مسألة الولاية لا تقتضي الجبر ولا اعتبار الكفاءة على أسس جاهلية، بل هي حق يحمي المرأة من الانجراف خلف العاطفة المجردة، وحيث جاء من يرضى دينه وخلقه ولو كان حجاما أو عبدا حبشيا ورضيت به، كان امتناع الأولياء لدواعي الهوى فتنة وفسادا في الأرض، وكان للقاضي أن يمنعهم من التعسف في استعمال الحق، كما يكف كل ذي غي عن غيه. والحمد لله رب العالمين
6- أن الأستاذ خير من يذكر بأبيات العلامة محنض بابه بن اعبيد رحمه الله تعالى:
ليس من أخطأ الصواب بمخط …. إن يؤب لا ولا عليه ملامة
إنما المخطئ المسي من إذا ما …. ظهر الحق لج يحمي كلامه
حسنات الرجوع تذهب عنـــه …. سيئات الخطا وتنفي الملامة