
ظرافات وظرفاء (55) الأستاذ/ محمدو سالم ولد جدو
تحتفل بريطانيا سنويا بذكرى تَحَطُّمِ الأسطول الحربي الفرنسي الإسباني سنة 1805 وخروج الجيش البريطاني منتصرا من معركة الطرف الأغر؛ رغم أن النصر لم يكن نتيجة جَلَدِ السلاح الملكي البريطاني ولا تدبيره، وإنما جاء نتيجة حالة البحر بقيادة الجنرال “طقس”.
أنا أيضا انتصرت منذ أربع وعشرين سنة في معركة غير مشهورة، على عدو لم أوجف عليه من خيل ولا ركاب؛ بل لم أدْرِ ما أفعل أصلا، وليس لي سلاح سوى عصا مسروقة، ولا علم سابق بالمنازلة! ومع ذلك لم أفكر في التنويه بهذه المعركة الحاسمة والاحتفال بها وتخليدها، ولو بارتشاف كأس من الشاي.. عموما سأروي القصة كما أظن أنه جرى.
في الربع الأخير من سنة 1990 كنت في الثامنة والعشرين من حياتي، وقضيت أياما من أواخر الخريف في حي بدوي على أزيد من 20 كيلو مترا جنوب شرق تگند الجديدة، ولم تكن حال الناس والمواشي والمراعي على ما يرام بعد ما بدأ هبوب سَموم “ألاوه” نهارا، وبرد اعريگيب ليلا، فرأيت العودة إلى قواعدي على نحو يلبي حبي لرياضة المشي؛ وبما أنني في تلك الفترة مصاب برعاف يهيج لأدنى سبب ويصعب إيقافه إذا استهل، فإن السير في النهار الذي يعمره “إريفي” مغامرة غير مأمونة العواقب، فلم يبق إلا الليل.
كانت لليل منغصاته أيضا، فالأرض مفعاة (كثيرة الأفاعي) على امتداد خمسة كيلو مترات تقريبا، ولكن الحافظ لا تأخذه سنة ولا نوم. والمسافة غير مأهولة والضلال ممكن جدا، ولكن هذه ليست مشكلتي؛ فأنا غير جبان (في رأيي) أولا، وأعرف الأرض ثانيا، وفوق ذلك أعرف علامة تختص بها إحدى جهات تلك المنطقة (أحتكرها لنفسي) لا يحار معها إلا أحمق.
حين بقيت ساعتان من الليل تقريبا انطلقت بعد أن استللت عصا شيخ فاضل من ذوي قرابتي كنت أدري أين يضعها فآثرتها على بحث عن أخرى قد يستغرق وقتا وقد يقودني إلى حية!
كان السكون تاما والقمر قد بدأ الانسحاب من المشهد، فانصرف ذهني إلى التأمل واستحضار ما حوته دواوين الأدب عن السرى وحال الرفقة والمطي التي كان لي منها ليلتها نعلان تؤلمني حوافهما لجدتهما. وبعد حوالي ساعة أفل القمر فتنازع الأفق ظلام الليل المدبر ولمعان الفجر الكاذب غير المقبل، وساد تفاهم على نصف ظلام ونصف نور في النهاية.
تنفست الصعداء حين بدت أشجار القتاد العالية التي يسميها الناس هناك “البجوان” (إشارة إلى عدم استفادة غير الإبل منها) فهذا دليل مادي على أني قطعت نصف الطريق، والأهم أنه دلالة على خروجي من منطقة سيادة الأفاعي، رغم أني كنت أرفع قدمي وأضع الأخرى دون تحفظ فلا أملك حيلة لرؤية موطئ قدمي.
عبرت من الطرف الغربي لمدفن قديم يحوي أنواع الناس، ومن نزلائه مشاهير كالشيخ محمد مولود بن أحمد فال (آدَّه) ومحمد بن هدار وغيرهما ممن اشتهر ومن لم يشتهر، والبعض لم يبق منه سوى هشيم عظام لا يواريها شيء.
استغرقت في الاعتبار والتفكر في بعض نزلاء المقبرة الذين جمعهم حيز واحد رغم عوامل أخرى فرقتهم في حياتهم.. وفجأة، وبينما كنت أمر تحت الفرع الجنوبي الغربي لقتادة (أيرواره) عالية من “بجوان” المكان سقط شيء برشاقة غريبة قبالة وجهي على بعد متر ونصف المتر مني، تأملته فوجدته قردا! ويبدو أن المفاجأة متبادلة.
كان كأنما يتأملني باستغراب، أما أنا فاقشعر كل جسدي قشعريرة غريبة، وأحسست بفروة رأسي كأنها تقبضت واخشوشنت، وكأن شعر رأسي شوك قنفذ! لم أدر ما أفعل، فلا أستطيع التقدم، ولا أجرؤ على التأخر أو العدول عن هذا الكائن الغريب البغيض إلى النفس؛ فوثبة منه تطوي خطوات واسعة من سيري!
ودون شعور لوحت مغامرا بالعصا نحوه وإن لم أكن أتوقع أن يؤثر ذلك إلا باستفزازه؛ فقفز جنوبا وتتالت قفزاته إلى حيث ألقت.. أتبعته النظر فرأيت قطيعا من بنات جنسه منهن من تحمل جروها على ظهرها أو حقوها. ففسرت ذلك بأنهن كن يجتنين الصمغ المتبجس بتأثير “ألاوه” إلى أن شعرن بي ففررن إلا أن مبارزي لم ينتبه في الوقت المناسب. وكانت معلوماتي أن القردة لا تتحرك بالليل خوفا من الحيات.
لم تدم الحادثة سوى ثوان معدودة، ولكن ذكراها لم تزل بعد؛ فلم ينكسر عود تحت نعلي بقية الطريق إلا واقشعر جلدي، ولم أتذكر ما جرى إلا وعاودتني القشعريرة. حتى أثناء كتابته الآن بعد حوالي ربع قرن!