ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (32) / د. محمدو احظانا

أم الروايات
رواية البطين التي لا تشبع.

قال الراوي:
طاردوا هذه الأحجية بأذهانكم حتى تقتنصوها:
“صاحبني وصحبته،
مات علي وردمته، جاءه الحي ونبشه، فقام عليه وكمشه”، ما هو؟

-صعبة جدا. قال أحد الحاضرين.
فقال أحد رعاة الغنم.
إن لم تكن شراك الذئب فلم أعرفها.
بل عرفتها جيدا. بخ لأمك.

الفصل الأول

قال لكم ماقال لكم…
إن جيشا من العربان الأشداء كان يقطع أرضا مقفرة لا أنيس بها ولا حسيس، وبها مرعى وليس بها من الأشجار إلا شجرة عظيمة واحدة معروفة تسمى شجرة المقيل، ترى من مسيرة ضحوة يراها من لا يعرفها من بعيد فيخالها صخرة أو هضيبة صغيرة.
وكان الجيش غازيا، ومن عادة الجيوش إذا غزت أن يتزود كل مقاتل منها بزاد كامل من ماء وطعام وبنادق ورصاص.
رأى أدلاء الجيش الجرار في طريقهم شجرة المقيل فقصدوها، حتى إذا قالت الأشياء في ظلها نزل الرجال تحت الشجرة الوافرة الظل، ليرتاحوا، وقدموا زادهم من تمر وثريد وقديد لحم، ودهن وودك وشطائر لحم طرية اصطادوا غزلانها في طريقهم. وكان كل واحد منهم يدس بندقيته الملقمة تحت فخذه لأن الأرض غير آمنة، وأغرب وأسوأ الاحتمالات وارد في هذا المهمه، فقد يفاجئهم جيش وهم نيام أو هم منشغلون بأمر ويقضي عليهم جميعا في لحظة عين، إذا تراخوا عن حراسة كل واحد منهم لنفسه. فالإنسان هو الذي يقتل نفسه في هذه السباسب المترامية قبل أعدائه، إن أخطأ أبسط خطأ، ولا خطأ بسيط في الصحراء!!

الفصل الثاني
بينما كان رجال الجيش يأكلون التمر قبل وجبات غدائهم إذ خرجت لهم بطين زاحفة من جحر قرب جذع الشجرة العملاق. كان حجم البطين حجم قبضة يد، وجرمها مجعد تجاعيد شيطانية مقيتة، ولها عينان دوارتان وقحتان، يشعر من نظرتا إليه أنهما تخترقان جسمه.
صار الرجال يرمونها بنوى فتبتلعه بسرعة وهم يضاحكون ملء حناحرهم من حركتها النزقة السريعة. وتحول فمها بعد حين إلى فوهة تتسع فتحتها باستمرار. إلى أن أصبحت باتساع جسمها كله فإذا فتحتها لابتلاع النوى رأى الرجال الرمال من ورائها.

****
بين الرجال أمير شاب كانت أمه عاقلة وقد أوصته أن يحذر جيدا في يوم أمانه.. خاصة في الصحراء الخالية. لما رأى الشاب الحاذق الحذر سلوك البطين ونهمها، وسرعة حركتها ورشفها لنوى التمر من بعيد قبل أن يصلها، أخذ بندقيته وكنانته وخنجره، ورحله وزاده، وقربة مائه و تسلق بها جذع شجرة المقيل حتى توغل بين فروعها العالية، وجلس حيث لا تراه أي عين ويرى هو كل شيء. وأخذ يراقب ما يجري.

****
ضحك رجال الجيش من، وعيروه بالجبن، وبكوزه فضح أباءه الشجعان. لكنه لم يبال بهم، فقد أدرك أن للبطين قوة خارقة للعادة، وتدبر أمره للنجاة منها قبل أن تغدر به.

الفصل الثالث

أخذت البطين بعد نهاية النوى تطمع في زاد الرجال وتزحف إليه وترشفه رشفا مذهلا.
قال لهم شاب جسور:
ياعامرين؛ إذا لم نقتل هذا البطين فسنخسر أغلب زادنا في هذه الصحراء الغول.
نهاه رجل أكبر منه عن استهدافها، فلعلها مسكونة بروح شريرة.
قال رجل آخر أشيب العضلة وقد بدا عليه القلق لقائد الجيش:
-رأيي الذي لم تحقره قط ولن تحقره أن نرحل من حيننا عن هذه الأرض. فأنا لا أطمئن لهذه البطين الزحافة التي لاتشبع و لا يزيدها الأكل حجما.
فقال له قائد الجيش معرضا:
-أعندك، أن هذا من صناديد الأبطال المسلحين يمكن أن تطرده أو تنغص عليه مقيله بطين بحجم قبضة يد أحدهم؟!
قطع شاب جسور معتد بنفسه الشك باليقين قائلا:
-دعوني أنا أريحكم منها.
وأفرد بندقيته وسدد لها رصاصة داخل حلقها إن كان حلقا فابتلعتها مثل أي نواة من نوى التمر، وانطلقت نحو الشاب المتهور بسرعة خاطفة، وابتلعته بثيابه في رمشة عين.
ومع ذلك لم يزدد حجمها عما كان عليه أولا.

****
لما شاهد رجال الجيش غير مصدقين ذلك المشهد الرهيب أخذوا يرمون البطين جميعا بالرصاص، فأخذت تبتلعه وتبلع رماته: ذاك، وذلك، وأولئك.. على عجل دون أن تبالي، وكأنها تلعب لعبة مسلية، وهي تغمغم كلما ابتلعت رجلا بثيابه. حتى لم تبق من الأبطال عينا تطرف. وصارت تدور على نفسها محتدمة وتتلمظ وتجحظ بعينها اليمنى إلى اليمين وعينها اليسرى إلى اليسار في نفس الوقت.
ثم تشقلبت بحماس، ولعقت شاربيها ونطت عنقها وزحفت إلى جحرها الضيق، ودخلته بسهولة كما خرجت منه، دون زيادة حجم، أوزوال تجاعيد.

الفصل الرابع
عم الصمت ولم يعد الأمير، الباقي الوحيد من الجيش، يسمع غير دوي الزمن ووسوسة أغصان شجرة المقيل عندما تهب عليها النسائم، أو تتناهى إليه من بعيد أصوات اجترار جمال الجيش الذي كان يملا فضاء الصحراء جلبة ولم يعد، صمت موحش، وأثر بعد عين.
أقبلت الجمال على نباتات الأرض اليانع من حمضيات وغيرها، تنال منها أقحوانا وجلدا، وطيرا وحلفاء…

****
أخذ الأمير يأكل طعامه بتوأدة وهو لا يكاد يحدث صوتا، دون أن يترك أي شيء يسقط من أكله حتى لا تكتشفه البطين الرهيبة.

****
انصب تفكير الشاب بشكل ناصع على الإجابة الدقيقة عن ثلاثة أسئلة:
-كيف يقضي على هذه البطين ذات الطاقة السحرية؟
-كيف يحول بينها وبين عدة الجيش وسلاحه، وجماله التي ترعى قريبا؟
-وكيف يعود لأهله ظافرا بما لديه من عدة وعتاد، وبينه وبينهم مهامه و أهوال وأعداء كثر؟

الفصل الخامس

في المساء هب نسيم بارد عليل فخرجت البطين من جحرها واستلقت على قفاها مستمرئة النسيم العليل.
قال في نفسه دون أن يقولها:
عندما يحاصر الفناء الإنسان فعليه أن يعي ثلاثة أشياء:
-أن الجبن لا يخرج من الخطر؛ بل يوغل فيه.
-أن ذكاء الإنسان هو أكبر طاقة ذاتية لديه يمكن أن تنجيه من الخطر الداهم. وأكبر ثمرة للذكاء التأني والعقل، وتنظيم الأفكار.
-أن مبادأة العدو أفضل من انتظار فعله للرد عليه في غالب الأحوال فالسابقة لا تقضى.
وبناء على هذه الركائز الثلاث قرر الأمير الشاب المواجهة التي لامفر منها، مع البطين الذي لا يشبع.
كان استطلاع قوة البطين أهم شيء سيتصرف الشاب على أساسه.

****
أكل الشاب تمرة ورمى البطين بنواتها، فصاءت كالعقرب، وأخذت تزحف، وتدور بجذع الشجرة وتنظر إلى أعلى وتدور عينيها الوقحتين بجنون.. حتى رأته من خلال الأغصان الملتفة، فأسرعت إلى جحرها وانحشرت فيه.
نجح الأمير في استنتاج مفيد وهو أن البطين لاتستطيع تسلق الشجرة إذ لو كانت تستطيع لفعلت عندما رأته..
وهذه معلومة قيمة رسم الشاب المهدد في وجوده كل خطته -التي ستعرفونها لاحقا- على أساسها.
ضم هذه المعلومة الثمينة إلى معلومة استنتجها من معركة الرجال مع البطين، وهي أن الرصاص لا يقتلها.
وفي الصحراء الغول يجب أن لانفرط في: الماء، والحزم، والحيلة،، والتبصر، وبلغة الطعام، والطريق.

الفصل السادس

فتل الشاب ذراعيه وساقيه في أغصان الشجرة الناعمة التي لاشوك فيها ونام.
حتى إذا رفعت نجمة السحر عينها الوقادة محدقة في الليل وذرى الرمال الهاجعة، اكتملت عليه يقظته، واستعاد الحوادث المريعة التي مرت عليه، وحدد مكانه ووضعه قبل أن يفتح نافذة عقله على التصرف التالي.
تذكر أنه لم يصلِّ منذ فجر أمس، فصلى فوائته بوضعه ذاك قضاء، وسأل الله أن يعينه على “البطين التي لاتشبع”.

****
لما أصبحت عين الإنسان تميز في غبش الفجر بين الذئب والكلب، رأى الشاب أحد جمال الجيش يأكل من أوراق شجرة المقيل، وقد خرجت إليه البطين مستطلعة، لكنه لاحظ أنها لم تهتم به؛ بل لم تقترب منه؛ وبعد حين عادت إلى جحرها.
صفف الأمير المعلومة الجديدة مع الاستنتاجين السابقين، وهي أن البطين لا تأكل إلا البشر. فاطمأن على جِماله.

****
لما أشرقت الشمس وحيدة في سماء الصحراء خرجت البطين وغادرت المكان ساعة زمانية، ثم عادت وتفقدت مكان الأمير من الشجرة فإذا هو حيث كان عند ذهابها، فدخلت في جحرها زاحفة.
ثم خرجت وذهبت مدة ثلاث ساعات بعدها ولما عادت تفقدت الشاب وكان حيث هو.
في المساء خرجت ظهرا ولم تعد إلا مساء..

****
فهم الأمير الشاب أن البطين تريد أن ينزل عن شجرة المقيل فتنقض عليه وتبتلعه كما ابتلعت رجال الجيش، فلعب معها لعبة الصبر والحيلة.

الفصل السابع

في صباح اليوم الثاني خرجت البطين فاستنتج الأمير بذكائه الغريزي أنها تستدرجه للنزول. ولذا فلن تعود إلا بعد منتصف النهار. كان مصدر هذا الاستنتاج أن الإنسان كلما تعاطى مع الخطر القاتل استعاد غريزته الحيوانية الفطرية، وكلما اقترب من الإنسان وأمانه ابتعد عن فطرته الحيوانية، التي لاتكذب. فلكأن الإنسان والحيوان يفهمان جيدا لغة مشتركة غير منطوقة، لا يدركها إلا من عايش الخطر الوجودي بإحساس صادق. والإنسان والحيوان يصبحان على نفس المسافة من غريزة حب البقاء في تلك اللحظة.

****
لما ابتعدت البطين وغابت عن أنظار الشاب نزل ممتشقا خنجره، وأقبل على نبات الحلفاء المنتشرة يجزها ويرفعها إلى مأواه في أعالى الشجرة، وأخذ يفتل منها حبلا قويا، حتى أنهى ماجلبه لهذا الغرض.

****
بعد الظهيرة عادت البطين وتفقدت الشاب فلما رأته حيث كان دخلت جحرها.
بعد ساعة قيلولة قصيرة خرجت من جديد فنزل الأمير وجلب بعض الحلفاء وانخرط في فتله، حتى إذا كادت الشمس تغرب أقبلت البطين وتفقدت الشجرة واطمأنت إلى وجود فريستها حيث هي.. انحشرت في جحرها وعم الهدوء.

الفصل الثامن
في اليوم الثالث قالت الفطرة الغريزية الحيوانية المتزايدة في إدراك الشاب إن البطين ستقضي اليوم كاملا عن شجرة المقيل، حتى يأمنها وتغافله، فانشغل أغلب وقته في جلب ما يكفيه من الحلفاء، وفتله، وأدلى الحبل حتى وصل الأرض، وجعل في أسفله أنشوطة، وأدارها على جحر البطين ووراها وموه مكانها، وجعل للأنشوطة حابسا في جذع الشجرة من بين غصنين، وأمسك بالطرف الأعلى للحبل منتظرا عودة البطين مساء.

****
كان من خيارات الأمير الشاب أن يحاول النجاة بنفسه على نجيب من نجب الإبل التي تسرح حوله فيبتعد بما ينجيه عن البطين، إلا أن من طبيعة الأبطال- وهذا ما يميزهم عن غيرهم- أن يواجهوا الخطر “عيني عينك”، دون بحث عن معاذير التهرب من المواجهة، حتى يستلوا شأفة التحدي، أو يموتوا فيحظوا بشرف الذكر الذي هو صك البقاء المعنوي الأبدي.
وكيف يترك شاب في مقتبل عمره وكمال قوة جسمه هذه البطولة التي نبتت له على حد محراثه في الحياة؟ و كيف يهدأ باله وقد قضت بطين صغيرة على جيش مسلح من أهله، ويتركها تمرح وتقضي على الجيوش دون أن يثأر منها ويقطع دابرها؟ كان الشاب يعي من خلال ما يدركه ولا يعي أنه أدركه أن الفرق بين الشجاعة والجسارة المتهورة أن الشجاعة جسارة متبصرة والتهور جسارة عمياء فاختار الشجاعة.
وما الأبطال إن لم يجترحوا ماعجز عنه غيرهم من الرجال؟

الفصل التاسع

أقبلت البطين زاحفة مسرعة، ودارت قلقة بجذع شجرة المقيل حتى رأت الأمير ساكنا هادئا فزحفت إلى جحرها، ولم تكد تدخل رأسها في الجحر حتى جذب الشاب حبل الحلفأء بسرعة فأحكم خناق البطين من عنقها، فأخذت تنتفض بقوة هائلة كأنها فحل هائج لتخلص نفسها من الأنشوطة، وصاحت صيحات حادة تفصل بين الماء واللبن، و صارت الشجرة تهتز وتساقط أغصانها وأوراقها، وتتمايل وتتزلزل.. حتى أيقن الشاب أنها ستهوي به.. وكأن جبارا من الأولين يطيح بها.
صبر الشاب على جذب الحبل بقوة حتى همدت البطين، وانفقأت عيناها كرصاصتين، وقتلت حدقاتهما جملين كانا يرعيان قريبا من شحرة المقيل لشدة الخنق، ولم تنس البطين أن تخلف كثيرا من بينه روؤوس وثياب الرجال الذين ابتلعتهم قبل ثلاثة أيام، وبعد ما أصبحت جلدة خاوية، شد الشاب الحبل وربطه بإحكام في جذع فرع من الشجرة، ونام في مكانه إلى الصباح.

الفصل العاشر

نزل الشاب صباحا وتأكد أن البطين قد ماتت ولم ير منها إلا جلدة مجعدة مشنوقة فتركها كما هي، وأنزل زاده ورحله، وسلاحه وقربته، على عجل، وجمع عدة ومتاع الجيش الذي قضت عليه البطين، وجلب الجمال كلها باستثنا، اثنين رمتهما البطين بعينيها.
حمل الشاب على قطار الإبل ما جاءت به، إلا رجالها. وربط زمام كل جمل بذيل الجمل المتقدم عليه، وركب جمله الذي كان هو الأمامي وانطلق منشدا محلة أهله.

****
لم يزل الأمير الشجاع يقطع المهمه بعد المهمه والأرض بعد الأرض، لياليه ونهاراته، ويتجنب الأعداء واللصوص، وقطاع الطريق.. الذين ينبتون في الصحراء نبات الكمأة.. حتى قدم على محلة أهله ظافرا، وروى الخبر الفظيع عن الجيش، وكيف قضى هو على البطين التي لاتشبع، وثأره منها لرفاقه.
فقال له أكابر محلته الحكماء المجربون:
-لولا شجاعتك وأناتك لما رجع منكم رداد خبر، فكم من جيش قضت عليه بطين شجرة المقيل..
ولعلك الناجي الوحيد من ضيوفها.

قال الراوي:
وربطت أنا نعلي، ورجعت إلى أهلي سالما، أحدث برواية البطين التي لاتشبع.. دائرا عن دائر.

م. أحظانا


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى