ثقافة

ظرافات وظرفاء(45) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

جرت عادة المسؤولين (قديما طبعا) على اختيار كبار الأدباء وفرسان القلم لتولي مهمة الكتابة. فلم يكن يوصف بالكاتب إلا كبار المبرزين؛ خلافا لعصرنا الذي دنس فيه الوصف بمن لا يحسن مجرد الإملاء!
وكلا الحقبتين أثمرت بما يناسب النهج المتبع فيها؛ فإذا كان كتاب عصرنا يصفدون الفعل بأداة التعريف ومنهم من يكسعه بهاء الواحدة إمعانا في سلبه أهم صفاته، ويجمع بين أصل همز التعريف وبدله ويذيل الاسم بتاء التأنيث المبسوطة.. إلى آخر اختراعاتهم العجيبة.
إذا كان هؤلاء كذا فإن أولئك خلدتهم مآثرهم التي ليس أقلها شأنا “التوقيعات” وهي جمل غالبا ما تكون استشهادات مختصرة ومهذبة تغني عن تقارير مسهبة ومملة.. وإليك أمثلة من ذلك.
ضبط بعض المسؤولين في ديوانه رجلا يصغي إلى سره فأمر بضربه وحبسه، فلخص كاتب المسؤول لكاتب السجن قصته بالقول: {استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} ووُجِد أعمى مع عمياء في وضع حميم دون سبب شرعي فلخص الكاتب تهمتهما بأن كتب {ظلمات بعضها فوق بعض}.
رفع تظلم إلى هشام بن عبد الملك من أحد رعيته، فوقّع بالقول: أتاك الغوث إن صدقت، وجاءك النكال إن كذبت.
وكتب يزيد بن هبيرة إلى مروان بن محمد المنبوز (أو الممدوح) بالحمار يقول إن قائد العدو فلانا قد غرق وقد قاتلنا أصحابه فهزمونا، فوقّع: هذا والله الإدبار! وإلا فمن سمع بميت هزم حيا؟!
سمع المأمون من إسحاق بن إبراهيم الموصلي بعريب (المغنية الأدبية المشهورة) فعهد إليه بشرائها، فاشتراها له بمائة ألف درهم، وأجاز إسحاق مثل ذلك، وكان إبراهيم بن رباح على نفقات المأمون فكتب “مائتا ألف درهم في ثمن درة وإجرة دَلال” (أي سمسار) فرأى الفضل بن مروان ذلك واستغربه فسأل ابن رباح عنه فقال: هو ما رأيت. لم يقتنع الفضل فأبلغ المأمون بما رأى فاستغربه أيضا، واستدعى إبراهيم فلما جاء دنا إليه وأخبره أنه المال الذي خرج في ثمن عريب وجائزة إسحاق، ثم قال له: أيهما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت، أم أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية؟ فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطي، لا تعترض على كاتبي هذا في شيء.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى