اتَّاهْ وحديث الشعـر
عندما يتحدث العالم والمؤرخ المختار بن حامدن (اتَّاه) شعرا، حري بالقارئ قبل أن يستسهل النص، وتأسره سلاسة اللفظ، وانسيابية الإيقاع، أن يكون على دراية بالثقافة العربية الإسلامية؛ لغة ونحوا وقواعد وأشعارا وتاريخا وفقها وأصولا ومنطقا وبيانا، فنصوصه غنية، مكتنزة، تستند إلى زاد مكين من هذه الثقافة، وتتعانق فيها الكثير من الإحالات التي تحتاج روية وكشفا وتفكيكا.
وعلى القارئ كذلك أن يكون ملما بالثقافة (البيظانية) مفردات، وإحالات، وتوريات خفية، فالمختار بن حامدن أسس مدرسة خاصة في الشعر الموريتاني، تتجاوز المألوف في مدرسة “ازريكه” وتمعن في استثمار الموروث الثقافي، وبعبارة موجزة تمثل نسيج وحدها في التشكل والبناء.
استوقفني له هذا النص –وكثير من نصوصه يستوقف- فآثرت النظر فيه على قلة زادٍ وشُحِّ أدواتٍ:
عِـنْــــدَ ذَاتِ الْـقُـــدُورِ تُـلْـقَى الْـبُـدُورُ ** وَبُــــدُورٌ أُخْـرَى حَـوَتْــهَـا الْخُـــــدُورُ
فَالْـبُــــــدُورُ الْأولَى فُـــتُــــــوٌّ كِــــــــرَامٌ ** وَالْـبُـــدُورُ الْأُخْـــرَى حَـرَائِـــرُ حُـــورُ
وَعَـلَــى أَوْجُـــــهِ الْـفُـتُــــــوِّ بَـــهَــــــــــاءٌ ** وَعَـلَى الْحُـــورِ رَوْنَـــقٌ مَــــــــذْرُورُ
لَـيْـتَـني مِنْ أُولَـئِـكَ الْـقَــــوْمِ أَدْنُــــــو ** أَوْ إِلَى الْحُــورِ لَـيْـتَـنِي أَنْـظُــــورُ
حَـبَّــــذَا مَعْـشَــــرُ هُـنَــــالِـــــكَ بَــــــــادٍ ** فَـضْلُـهُـمْ؛ِ ظَـاهِـرٌ قَــدِيــمٌ شَهِـيـرُ
بِتُّ فِيهِمْ لَيْلًا حَكَى الصُّبْحَ فِي الْحُسْــــنِ وَبَـاتَ الْكُـــؤُوسُ فِــيــهِ تَــدُورُ
وَالْحَـدِيـثُ اللَّذُّ الَّذِي يَـشْـرَحُ الصَّـدْ ** رَ وَبَأْتِي الـنُّـفُــوسَ مِنْهُ السُّـرُورُ
يَـتَـعَـــــاطَـــاهُ فِـتْـيَـــــةٌ ثَــــمَّ شُـــــــــمٌّ ** سَـــادَةٌ، قَــــادَةٌ، بُــــدُورٌ، صُــدُورُ
وَقَــــدِيـــــرٌ عَـلَى إِعَـــــادَةِ لَــــيْـــــــــلٍ ** مِثْـلَ لَيْلِي بِذِي الْـقُـدُورِ الْـقَـدِيــرُ
يأتي سياق النص إخباريا وصفيا، يحمل انطباعات الشاعر عن المكان الذي يبدو أنه تعهده وزاره مرات، فالشاعر المؤرخ عرف برحلاته المشهودة بين الأحياء والأماكن في طول البلاد وعرضها، سعيا إلى التعرف على الأماكن والسكان، واستنطاقا للتضاريس والبيئة، وبحثا عن ما ترك السابقون، وما عرف اللاحقون، إنها رحلة “حياة موريتانيا” التي أراد أن يشق لها طريقا في سفر الخلود، باحثا عن تاريخها وعلمائها، وأيامها، وأنماط العيش فيها، وأنساب ذويها، وهي رحلة أخذت منه عقودا من الزمن كانت زهرة شبابه.
وقد استخدم الفعل المبني للمجهول في مفتتح النص: (تُلقى)، مما يفهم منه تعود زيارة المكان ومعرفة ذويه، مما سيعلن في سياق الحديث.
فالنص وليد زيارة حي أهل “أبابك” المالكيين، عند البئر المسماة “إب لگـدور”، يأتي ذلك في إطار رحلة البحث لدى الشاعر التي دأب فيها على مجالسة العلماء والمؤرخين، والاطلاع على المكتبات الخاصة، ومحادثة المسنين من ذوي التجارب.
سجل انطباعه عن الرحلة في هذه المقطوعة، فتحدث وأحسن الحديث، وطوع اللغة للتعبير عما أراد، معتمدا التلاعب اللفظي بالكلمات في إعادة تشكيل ثري لتقاليبها التجنيسية، وتلك سمة فنية بارزة في شعره؛ حيث تتولد المعاني من مفردات متسقة أحرفا، ومتناغمة إيقاعا، مع أنها صعبة التحقق لمن لا يمتلك ناصية اللغة، كقوله ذات زيارة ل”تنگـادوم”:
الْحَـمْـــدُ للهِ رَبِّ الْعَـالَـمِـيــــنَ عَـلَى ** إِلًى عَـلَيَّ بِهَــــا مَـنَّ الْكَـرِيـــمُ عَــلَا
عَلَى الْقُدُومِ عَلَى ذَاتِ الْقَدُومِ أَلَا ** إِنَّ الْـقُـدُومَ إِلَى ذَاتِ الْـقَـدُومِ إِلَى
فالبيتان تشكلا من ثلاث كلمات تجانست حروفا واختلفت معنى: (على-علا- القَدومِ- الْقُدُومِ-إلى- إلَى).
وأتذكر أستاذي الدكتور محمد مفتاح – رحمه الله – حين كان يقول لنا وهو يدرسنا نظريته عن دينامية النص: “ليس الشعر إلا نواة لفظية تنمى وتمطط بطرق مختلفة، إنه فن اللعب اللغوي”، والظاهر أن “اتاه” أتقن قواعد اللعبة، وبرع في صياغة القول.
لقد بدأ الشاعر نصه بتحديد المكان، فاستهل القصيدة بالظرف والمتضايفين بعده: (عند ذات القدور)، وفي هذا التحديد تعريف بالقوم، فيكفي عادة أن تُذكَرَ البئر أو يُسَمَّى الحِمَى ليتعَرَّف الناس على ذويه، قبيلة كانوا أم عشيرا؛ تصبح الكناية أبلغ من التصريح باسم الساكنين، مما يؤكد أن المكان أصبح من الشهرة بحيث ينوب مناب القوم، فبذكره يعرفون ويوصفون.
وتحمل كلمة “القدور” معنى مزدوجا أفلح الشاعر في ربط دلالتيه الحقيقية والإحالية؛ فإلى كونها تعريبا لاسم البئر: (إبْ لِگْـدُورْ)، فإن فيها إحالة ضمنية إلى كرم الضيافة، فكثيرا ما ارتبط ذكر القدور في الشعر العربي بالجود والسخاء وكثرة الضيفان، يقول سويد بن أبي كاهل اليشكري متغنيا بأمجاد قومه:
وَإذَا هَـبَّـــت شَـمَـالًا أَطْعَـمُــوا ** فِي قُـــدُورٍ مُـشْـبِـعَـاتٍ لَمْ تُـجَــعْ
وَجِـفَــــانٍ كَالْجَــوَابِي مُـلِـئَــــتْ ** مِـنْ سَمِـيـنَـاتِ الـذُّرَا فِـيهَـا تَـــرَعْ
بعد تحديد المكان يصف القوم بأنهم بدور، تأكيدا على السمو والبهاء، وهي صفة شملتهم ذكرانا وإناثا:
عِـنْــدَ ذَاتِ الْـقُـــدُورِ تُـلْـقَى الْـبُـدُورُ ** وَبُــدُورٌ أُخْـرَى حَـوَتْهَـا الْخُـــدُورُ
فالبدور صنفان: مَن سِمَتُهم البهاء والإشراق وهم الرجال، ومن حوتهن الخدور ويقصد النساء، هكذا يستهل الحديث عن القوم، بوصف جامع: (البدور) إلا أنه يوفيه تفصيلا محددا صفات كل من الجنسين:
فَالْـبُـــدُورُ الْأولَى فُـــتُــــوٌّ كِــــــرَامٌ ** وَالْـبُـدُورُ الْأُخْـرَى حَـرَائِـرُ حُـورُ
ينعت الشاعر الرجال بالفتوة والكرم؛ ولعل النعت بالفتوة أوفى مديح، فكلمة “الفتى” لا تستخدم في اللغة إلا لمن اكتملت فيه الخصال الحميدة، وكما يقول طرفة:
إذا القومُ قالوا مَنْ فَتًى ؟ خِلْتُ أَنَّنِي ** عُنِيتُ، فلمْ أكسلْ ولم أتبلدِ
فالفتوة لدى الشعراء مشحونة بالأوصاف الحميدة خَلْقًا وسلوكا وفضائل ومواهب.
ويأتي التفصيل للصفات ضمن مقابلات متوازية:
فَالْـبُـــدُورُ الْأولَى فُـــتُــــوٌّ كِــــرَامٌ ** وَالْـبُـدُورُ الْأُخْـــرَى حَـرَائِــــرُ حُـورُ
وَعَـلَى أَوْجُـــهِ الْـفُـتُــــــوِّ بَـهَـــــــاءٌ ** وَعَـلَى الْحُـــورِ رَوْنَـــقٌ مَـــــــذْرُورُ
لَـيْـتَـني مِنْ أُولَئِـكَ الْـقَـوْمِ أَدْنُـو ** أَوْ إِلَى الْحُــورِ لَـيْـتَـنِي أَنْـظُــــورُ
إنه حين يصف الرجال بالفتوة سيجد مجالا رحبا لذكر المحامد، أما النساء فقد أوفاهن ذكرا حسنا: جمالا وعفة حين نعتهن بالقول: (حرائرُ حورُ)، فأحالنا مباشرة إلى بيت جرير:
حُـورٌ حَـرائــِرُ مَا هَـمَمْـنَ بـِرِيـبــةٍ ** كَـظِـبَـاءِ مَكَّــةَ صَيْـدُهُـنَّ حَـرَامُ
فليس من اللباقة نعت المرأة بالعفة فحسب، بل لا بد أن يعاضد تلك العفة جمال فيكون للتمنع والتستر داع وجيه، واتَّاهْ الرجل الْإِگِـيدِيُّ عارف بالحديث عن المرأة بشكل يرضيها ولا يثير شبهات حولها.
ثم يستطرد في الوصف لينعت الرجال بالبهاء، أي الوضاءة، ومعروف أن الوجه خير ترجمان عن صاحبه، فالبهاء يتعدى إشراقه وتأثيره صاحبه لينعكس على جليسه، وكما قال أبو نواس:
يَـــزِيـــدُكَ وَجْـهُـــهُ حُــسْـــنًــــا ** إِذَا مَـــا زِدْتَــــهُ نَـظَــــرَا
ومقابل بهاء الرجال، فالحرائر عليهن (رونق مذرور)، ولا شك أن الرونق هو أثر النعمة عليهن وما هن فيه من دعة ورغد عيش، إلا أن الصفة المضفاة على الرونق أحدثت عدولا شعريا متميزا؛ فالمذرور لغة: هو كل مسحوق يذر، وكثر استخدام الشعراء للكلمة معبرين بها عن تلك الطبقة التي تغلف الشيء حين تُلقى عليه، يقول المعتمد بن عباد أيام الملك والهناء:
وَقَدِ انْطَفَـتْ نَارُ الْقِرَى وَبَقِي عَلَى ** مِسْكِ الدُّجَى مَذْرُورُ كَافُورِ الْغَضَا
فالمذرور هو تلك الغلالة التي تعلو الشيء من مادة غبارية، غير أن الشاعر في البيت لم يقصد الدلالة الوضعية للكلمة، وإنما اتكأ على ذاكرته الشعبية التي تحمل فيها المفردة معنى غزليا صرفا؛ هو المرادف في اللهجة ل”للشيطانْ أو انْگَـرَادُو” أو “شِي مَاهُو فِالْكَرْنَه”، وكلها كلمات تدل على شدة الفتنة والإغواء، فليس الجمال الْخَلْقِيُّ ما يستهوي النفس وحده، بل إن هنالك سرا خفيا ومُعْطًى خاصا يمكن التعبير عنه بالقبول أو الجاذبية، وقد لا يرتبط بالجمال الظاهري ولكنه يشد الإنسان إلى الآخر ويقربه إلى نفسه، وهكذا استكملت هؤلاء النسوة وصفهن الجمالي وفتنتهن فجمعن الحسنيين.
يتبع…
من صفحة الدكتورة: امباركه منت البراء