الشيخ أحمد أبو المعالي : رحلة علاج تحوّلت إلى دوحة شعرية وارفة 1956م
إن للعلماء والأولياء محطات في حياتهم تشهد انبجاس ينابيع الأدب واحتشاد الشعور، فتصبح المحنة منارات تُستنطق فيها القوافي، وتُسكب فيها الدموع الحرى، وتُكتب على أديمها قصائد خالدة على جبين الزمن؛ ومن بين هذه المحطات البارزة، رحلة علاج الشيخ أحمد أبو المعالي من آلام عينه، تلك الرحلة التي لم تكن مجرد واقعة طبية، بل كانت حدثًا شعريًا مهيبًا أرخ له الأدباء والمريدون بقصائد تفيض محبة ووفاءً.
لقد كان الشيخ بنوره العلمي وسمته الأخلاقي، بوصلةً للأرواح الحائرة، فكان شفاء عينه شفاءً للأمة التي وجدت في شخصه رمزًا للعلم والعمل، فكان محط رحال الأدباء ومهوى أفئدة المريدين.
في عام 1956، شدّ شيخنا الشيخ أحمد أبو المعالي رحاله إلى مدينة “إندر” (سينلوي) لتلقي علاج بصره الذي ألمّ به الداء، وبين آهات الألم وأنين الوجع، تفتحت أزهار الشعر، وانبثقت أنوار المحبة التي جسّدت مكانة الشيخ في القلوب.
وكان الطبيب الذي أشرف على علاجه مسيحيًا يُدعى “بول”، بذل جهده في تخفيف آلام الشيخ، وقد كان هذا الطبيب المسيحي محل امتنان الشاعر المختار بن حامدن، الذي خاطبه بقوله:
قولا لبول جزاك الله صالحة
لقد صنعت يدا فينا علت رتبا
داويت أحسننا سمْتا وأقومنا
نهجا وأسمحنا كفا تسحّ حبا
ذكرتنا عهد عيسى الروح سيدنا
أيام يبرأ عيسى الأكمه الوصبا
وقال الشاعر باباه بن محمد فال بن أبته المدلشي في استشفائيته الصادقة :
يا من له الأمر بين النون والكاف
فلتكـف عين الإمام الضرّ يا كافي
فكم لحبك طول الدهر قد سهرت
وكم لخوفك قد جادت بتوكاف
فَلْتَشْفِهَا باسْمك الشافي العلي فلكم
شفيت داءا بأسرار اسمك الشافي
عين الحياء وعين اللطف كم نظرت
إلى الفقير بإسناد و إسعاف
وكم بها قذيت عين الحسود وكم
قرت بها عين آت بائس عاف
وكم لدى زلة غضت ولو عظمت
وكيف لا وهي عين الكاظم العافي
في الكتب كم حزرت معنى لذي نظر
وكم بها نشرت من مشكل خاف
عين بها ظاهر الشرع استقام وفي
علم الحقيقة عين المشرب الصافي
أبو المعالي الفتى شيخي المبرز في
علم وعقل وفي عدل وإنصاف
راقت ظواهره صفت سرائره
ليست مآثره تحصى بأوصاف
فمن تأمله ألفاه كملـــــــه
من منه تم له مطلوبه الصافي
وعندما تعافى شيخنا الجليل -تغمده الله بواسع رحمته- وعاد إلى وطنه سالمًا معافًى، عبّر الشاعر محمد بن محمد محمود بن بوبني التاگاطي (ت1995) -وهو من مريدي الشيخ وابن عمه- عن فرحته الغامرة بهذه العودة المباركة من خلال رائيته الرائعة :
الحمد الله لاح الخير والبشَر
مذ لاح غيث الورى المرجو والوزر
أبو المعالى الذى كنا نؤمله
لدفع ما نختشي طرا وننتظر
بشرى لنا معشر الإسلام قاطبة
أبصارنا عوفيَتْ مذ عوفي البصر ُ
بل عوفيَتْ للورى طرا بصائرهم
وعوفيت حوج ما تنقضى أخر
فالله يكلؤنا طرا ويكلؤكم
وناصروكم ومن إياهم نصر
ولا رأى حاسدوكم فيكم أبدا
ما يشتهون ولاعزوا ولا نصروا
فأنتم أنتم للناس وحــــــــدكم
يرضى القريض بكم وغيركم هذرُ
ثم الصلاة على خير الورى وعلى
أصحابه كلما في ذكره ذكر
وفي نفس السياق يقول الشيباني بن أحمد النجمري (ت2006) :
رسوم الربى هيجن للصب من أسما
شجونا رسمن البث في قلبه رسما
تبيئتها لأيا فسارعني البكا
أعار بكاء الصب إن عرف الرسما
إلى أن يقول :
أيا شيخنا لا أشمت الله حاسدا
مدى الدهر فيكم حاز من نيلكم مرمى
يود يرى بؤسا بكم كي يسره
ومانلت من نعمى يموت به غما
تراه كليم القلب مانلتم علا
ويزداد إثما إن في قلبه إثما
سيلقى بأخراه نكالا وإنه
لفى نكد دنيا يرى قلبه يعمى
فمن لم يشيموا ضوء نور هداكم
فكلهم من شؤمه قلبه أعمى
ألا إنها تعمى يقينا قلوبهم
ولم تكن الأبصار تعمى فما تعمـى
شفاك إلاه العرش نحمده على
شفاك الذي أمسى لأنف العدى رغما
فمن يك قد أبدى الشماتة إنه
يرى اليوم أحوالا تجرعه سما
سيكفيك رب العالمين أذى العدى
فعاملهم بما تعاملهم قدما
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ولا
تبال إذا ما بعد ذا نكثوا السلما
فناکث سلم منك ينكث ويحه
على نفسه قد جنب الربح والغنما
فيا خسره هلا درى إن ربه
أحاط بما قد كن في صدره علما
فما نلتم شتما يدنس عرضكم
وكيف ينال الشتم من يتَّقي الشتما
لقد كان هذا الشيخ دوحةً ظليلة في ميدان الأدب، ولم تكن رحلة علاجه سوى حلقة من حلقات ذلك الحضور الشعري الفريد، فقد جادت القرائح بدرر القوافي وروائع القصائد،… جمع محمد بن زين بن المحبوبي هذا النتاج الثرّ في مؤلفه : “ديوان مدائح الشيخ أحمد أبو المعالي”، -والأنسب إيحائيا أن نسميه”معجز أحمد”-، الديوان الذي ضم بين دفتيه قصائد شتى، شكّلت فُسيفساء أدبية زاهية الألوان، تنبض بالتقدير والتعظيم من تحت الغلاف، وفوق العنونة.
رحلة أدبية على طريق الأمل الشعرية نحو العلاج…
رحم الله السلف وبارك في الخلف
من صفحة Ishagh Dade