ثقافة

الأستاذ الحسن المختار يرد على تدوينات ل Sidi Mohamed أثارت جدلا واسعا – يستحق القراءة

قياس مع وجود أكثر من فارق
هل سُميت البلاد الشنقيطية بلاد التكرور؟

قرأت اليوم منشوراً في صفحة الأستاذ Sidi Mohamed تضمن نص رسالة وجهها من سمى نفسه محمد بن محمد بن علي اللمتوني إلى الإمام السيوطي يستفتيه فيها عن أمور كثيرة. وأود ابتداء شكر الأستاذ سيدي محمد على التدوينات الجميلة، التي تفتح آفاق التأمل واسعة في جوانب تاريخية منسية، ووقائع ثقافية كاشفة، أو شخصيات ذاهبة الأخبار. ولاشك أن التدوين عن كل هذا مفيد دون شك، ومُثرٍ لذاكرتنا الجمعية، ومنعش لثقافة أجيالنا الحالية. ولا أود أن يكون تعليقي هذا على تدوينته تلك تعقيب تسقّطٍ أو مناكفة فيما قد يعتبره، ويعتبره باحثون كثر آخرون غيره، من الأمور البديهية، أو «المسلّمات التاريخية» المفروغ من صحتها، مع أنها قد لا تكون كذلك في حقيقتها، إن عرضناها على معطيات التاريخ، أو وزنّاها بموازين المنطق والعقل، أو استشرنا في الحكم عليها مصادر ومراجع ذات صفة.

ومنشوره هذا بما ذكر المستفتي فيه من غرائب العادات وعجائب نحل المعاش، قد يحيل ذهنياً زوار صفحته العامرة على منشورين سابقين نشرهما خلال الأيام الماضية عن غرائب عادات “الفداء”، أثار كل منهما كثيراً من اللغط والتعليقات والسجالات والجدالات، فكأنّ هذا المنشور موجّه أيضاً للمستغربين والمتحفظين والمتوقفين عند ما نشر عن عادات «الفداء»، ولسان حاله يقول: تفضلوا إليكم الآن ما هو أغرب وأعجب بكثير من العادات المخالفة للأذواق والأخلاق والشريعة المطهّرة، مما كان سائداً في بلادنا، ومن مصدرين موثوقين: عالم مستفتٍ من بلادنا هو محمد بن محمد بن علي اللمتوني، والإمام السيوطي (1445-1505م)، رحمهما الله تعالى. وأشار أيضاً استطراداً إلى أن اللمتوني هذا من ولاتة، مدينتنا التاريخية المحروسة بحفظ الله وعنايته ورعايته. ورسالة أسئلة اللمتوني هذه معروفة، كما تفضل الأستاذ بنشر متن نصها كما هو وراد في كتاب “الحاوي للفتاوي” للإمام السيوطي، ولا نعرف لهذه الرسالة مصدراً آخر غيره.

ولكن سأستسمح الأستاذ في التعقيب على منشوره ذاك، تعقيباً يثير سؤالين فقط لا ثالث لهما، هما:
– هل محمد بن محمد بن علي اللمتوني هذا من بلادنا حتى يكون توصيفه لأحوال ونحل معاش ذلك الزمن منطبقاً عليها؟
– وهل بلادنا الشنقيطية نفسها سميت في ذلك الزمن بلاد التكرور حتى تكون هي المقصودة بإشارة السيوطي إلى أن الأسئلة واردة من بلاد التكرور؟

وأعتذر سلفاً إن ذهب بنا الكلام مذاهبه، وطال هذا التعليق بعض الشيء، ووقع تحت طائلة الإطناب والاستطراد.
أولاً، لم يذكر محمد بن محمد بن علي اللمتوني هذا في متن رسالته أنه من ولاتة، ولا من بلادنا الشنقيطية الحالية كلها، ولم يذكر أيضاً أين تقع بلاده من الأساس، ولعل في هذا إحالة ذهنية ضمنية إلى أن السيوطي يعرفها، أو أن حامل الحروف سيخبره عنها. ولذلك اكتفى اللمتوني فقط بطلب في آخر رسالته “وَتُبَيِّنُ لِي أَمْرَ هَيْئَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَعَرْضِ بَلَدِنَا وَطُولِهَا”. ولم يجب السيوطي أيضاً في رده على هذا السؤال وإنما تجاهله، في حين رد على طلب المستفتي المتعلق بتبيان هيئة السماوات والأرض فقال: “سَأَلْتَ أَنْ أُبَيِّنَ لَكَ أَمْرَ هَيْئَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ لِي فِي ذَلِكَ تَأْلِيفاً كَامِلاً يُسَمَّى الْهَيْئَةَ السُّنِّيَّةَ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ، وَسَأُرْسِلُ لَكُمْ مِنْهُ نُسْخَةً».

وكانت ردود السيوطي عموماً على أسئلة المستفتي الكثيرة ردوداً مختصرة مكتنزة مكتفية ببيان أحكام شرعية بأسلوب مقتصد جداً تضيق فيه العبارة ويتسع المعنى. واكتفى من تعيين جهة المستفتي بالإشارة الواردة عرضاً في عنوان الفتوى: «فَتْحُ الْمَطْلَبِ الْمَبْرُورِ وَبَرَدُ الْكَبِدِ الْمَحْرُورِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ مِنَ التَّكْرُورِ». فقراءة دلالة إشارة السيوطي هذه إلى أن الأسئلة واردة من «التكرور» قد تكون هي البوصلة الجغرافية الوحيدة المتاحة عملياً لمعرفة بلاد المستفتي اللمتوني!

فهذه البلاد إذن الواردة منها الرسالة هي التكرور بحسب السيوطي.. والسؤال: أين تقع بلاد التكرور هذه؟ وهل أُطلق هذا الاسم على بلادنا الشنقيطية الحالية في ذلك الزمن، حتى تكون هي المعنية بكلام التكروري وأسئلة اللمتوني؟ أتذكر أنني كتبت قبل أيام تعليقاً بخصوص تسمية التكرور نفسها في صفحة الأستاذ الحسن مولاي علي حاولت فيه إضاءة جوانب من هذه المسألة الملتبسة، والتي تحتاج إلى قدر من الاهتمام والانتباه. فقد نشر الأستاذ ما معناه أن بلاد التكرور كانت اسم علم على بلادنا، وقد سماها البرتلي بهذا الاسم في عنوان كتابه «فتح الشكور في معرفة أعيان بلاد التكرور».. وأرى أن معرفة دلالة بلاد التكرور خاصة في المخيال الجغرافي المصري- المشرقي في زمن السيوطي قد يكون هو المدخل الكاشف لتعيين الجهة المقصودة.

وأستسمح في إعادة نشر ذلك التعليق هنا أيضاً، لأعود بعدها لاستكمال القصد من الكلام، بقصاصات وخلاصات لن تطول إن شاء الله. وهذا نص ذلك التعليق، مع إضافة بسيطة في المتن:
السلام عليكم.. لم تكن تسمية “التكرور” اسم علم خاصاً ببلادنا الشنقيطية، وإنما كان يطلق على عموم غرب إفريقيا كله -أو جله- في الغالب من نيجيريا إلى السنغال. ولذلك تجد بعض المؤلفين وأصحاب التراجم في الثقافة العربية الإسلامية في ذلك الزمن ينسبون أعلاماً إلى هذه المنطقة الواسعة بنسبة التكروري، أو التكروني، وأحياناً الدكروني. وإليها نُسبت -على الأرجح- الحارة الشهيرة التي كانت خارج القاهرة المملوكية (بولاق الدكرور). وقد شاعت تسمية التكروري خاصة في عهد دولة سونغاي (وإن كان اسم التكرور سابقاً على ذلك بكثير علماً على إقليم غرب إفريقيا وبعض سلطانته، حيث نجده مثلاً لدى إخباريين وكتاب مثل القلقشندي وغيره).

ولعل من أشهر الأعلام الذين نسبتهم بعض المصادر لهذه المنطقة العلامة أحمد بابا التونبكتي الذين سمته بعض كتب التراجم أحمد بابا التكروري، وأحياناً السوداني. والسودان أيضاً اسم آخر شائع للمنطقة، نجده مثلاً عند عبد الرحمن السعدي في عنوان كتابه “تاريخ السودان”. كما ظلت مالي الحالية تسمى كذلك “السودان الغربي” حتى قبيل الاستقلال.

وبالنسبة للبرتلي لم يكن يطلق تسمية التكرور على عموم بلادنا، فقد ترجم لعلماء من منطقة الگبله مثلاً واصفاً إياها بالمغرب الأقصى. كما أنه في ترجمته لكل هذا العدد من علماء بلادنا لم نجده أيضاً يصف أحداً منهم في ترجمة خاصة به بأنه تكروري، وإنما ينسبهم إلى قبائلهم في الغالب. ومن هنا فلعل صفة أو تسمية التكرور التي أطلقها على البلاد تكون مما فرضته السجعة والقافية في العنوان عطفاً على “فتح الشكور”، أو نسبة نقلية استمدها المؤلف من بعض تقاليد الثقافة التونبكتية، وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، ونعرف الصلات الوثيقة بين ولاتة وتازخت وتونبكتو، وهجرة الأقيتيين من أسرة أحمد بابا نفسه إلى ولاتة إثر اضطهاد سني علي لهم.

على أن ثمة سبباً ثقافياً -أو بالأحرى تقليداً تأليفياً- آخر محتملاً قد يكون أيضاً دفع البرتلي لاستدعاء كلمة التكرور في عنوان كتابه، ليس لوصف الإقليم في المقام الأول وإنما لترويج الكتاب نفسه. فبعد الشهرة التي أصابها كتاب تراجم أحمد بابا التكروري: “نيل الابتهاج بتطريز الديباج”، حيث انتشر في المغارب والمشارق كأحد أهم كتب تراجم المالكية، ربما أراد البرتلي أيضاً الإيحاء بأن في كتاب تراجمه هذا استكمالاً زمنياً لعمل أحمد بابا، مرتبطاً هذه المرة بعلماء بلاده التكرورية بالذات. والتنبكتي نفسه جعل هو أيضاً كتاب تراجمه “نيل الابتهاج بتطريز الديباج” تكملة زمنية لكتاب ابن فرحون المدني عن تراجم أعلام علماء المالكية: “الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب”، ولعل هذا كان أحد أسباب رواج “نيل الابتهاج” في أمهات حواضر البلدان المالكية، رغم أن صاحبه من أهل “آخر المعمور” بعبارة أحمد بابا نفسه.

ومن المعروف أن كتب التراجم والطبقات والمذاهب عموماً كثيراً ما ترتبط بظرف زماني كتراجم أصحاب القرون (أصحاب المائة الثامنة أو التاسعة..)، أو ظرف مكاني كتراجم علماء مدينة أو إقليم أو قُطر معين. وهكذا فربما اختار البرتلي صفة التكرور هنا لتوجيه القارئ ذهنياً لمعرفة أن كتابه هذا تطريز لاحق هو الآخر لـ”نيل” أحمد بابا التكروري.

وآمل أن تكون فيما سبق، حتى لا يطول بنا التعليق أكثر، جوانب من الإجابة على السؤال: متى توقف الناس عن تسمية هذه البلاد بلاد التكرور؟ فهذه البلاد في عمومها لم تسمّ يوماً بلاد التكرور كعلَم خاص بها دون بقية غرب إفريقيا، وإنما هذه التسمية عبارة تونبكتية -في المقام الأول- استجلبها عالم ولاتي في عنوان كتابه -فقط- لوصف البلد، وربما أيضاً لمشاكَلة عناوين مدونة رائجة من كتب التراجم السابقة.
وتأكيداً لهذا البعد في التسمية، فقد ظل أيضاً حضور اللفظ مستخدماً أحياناً -للأسباب السابقة المرتبطة بتأثير الثقافة التونبكتية- في الثقافة الشعبية في لهجة بعض أهالي الحوض، حيث أدركنا بعض كبار السن هناك يستخدمون عبارة التكرور والتكرون في صيغ مبالغة معينة، مثلاً يقولون باللسان الدارج: فلان سارق التكرون، أي إنه لا يوجد أسرق منه، أو فلان ساحر التكرون.. وهكذا.
انتهـ.

وأعود -بعد إذنكم- لاستكمال الكلام، لأعيد التذكير مجدداً بأن المصدر الوحيد الذي نسب اللمتوني صاحب تلك الأسئلة إلى بلاد التكرور هو السيوطي، وهذا الأخير ينطلق في توصيفه الجغرافي لمفهوم التكرور من التوصيف المصري- المشرقي التقليدي، الذي كان يطلق اسم التكرور في ذلك الزمن على عموم غرب إفريقيا -تقريباً من نيجيريا إلى السنغال- وفي زمن السيوطي تقريباً كان التكرور اسم علم على دولة السنغاي خاصة، وهذه الدولة ربما امتد نفوذها في تلك الفترة -خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر- إلى مناطق مصاقبة أو حتى من أقصى شرق بلادنا مثل ولاتة وتازخت، ولكنها لم تكن جزءاً منها، وكانت خارجة سلطتها، ومما يرجح ذلك أن نكبة الإقيتيين على يد طاغية السونغاي سني علي سنة 1468م، جعلتهم يلجأون إلى ولاتة وتازخت للخروج عن سلطانه. ولو كانت ولاتة يومذاك جزءاً من سلطانه لما لجأوا إليها أصلاً.
وتبقى مسألة أخرى، هي أن أي تحليل مضموني لتوصيفات وثيقة اللمتوني هذه لابد أن يتوصل أيضاً إلى أنه كان يعيش في بلد في ملوك وسلاطين في للنصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، وفيها سكان غير مسلمين (كفار بعبارته)، وسوى ذلك مما لا يصدق على أي جزء من بلادنا، زمن حياة السيوطي واللمتوني (النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي)، وعصر ازدهار دولة السونغاي، فالإسلام متجذر في مدينة ولاتة في وقت سابق بكثير على عصر ابن بطوطة الذي زارها قبل ذلك بأكثر من قرنين، ولم يذكر وجود غير مسلمين فيها، وإن كانت آنذاك تابعة لسلاطين إمبراطورية مالي.
ولعل هذا يقودنا إلى سؤال، قد يكون قارئ التعليق ينتظره منذ وقت، هو: إذن ما هي بلاد هذا الرجل المسمى محمد بن محمد بن علي اللمتوني؟ التي وصفها السيوطي بأنها «التكرور»؟ بالمختصر، الأرجح أنها منطقة غاوة الحالية في شمال إقليم أزواد، وإن كان هناك أيضاً من الباحثين من يرى أنها مدينة آگدز في شمال جمهورية النيجر الحالية. فغاوة كانت عاصمة لإمبراطورية السونغاي، وظل دائماً قريباً منها في الجنوب مع مجرى نهر النيجر أقوام غير مسلمين (بتعبير اللمتوني: كفار)، وما زالوا هناك حتى الآن من شعوب الدوغون والموسي (وكثير من البنبارا أيضاً في ذلك الزمن لم يكونوا قد أسلموا بعد).
ومنطقتا غاوة وآگدز في ذلك الزمن كانتا ضمن جغرافية سلطنة ملك التكرور (السونغاي)، وكان فيهما أيضاً أقوام من ذوي الأصول الصنهاجية والبربرية كما كانوا كذلك في تونبكتو التي أنهى سني علي سيطرتهم عليها. وإذا عرفنا أن السيوطي كأهل زمنه من المصريين والمشارقة كان يقصد بالتكرور غرب إفريقيا، يكون مفهوماً تخصيص منطقة إمبراطورية السونغاي تحديداً بهذا الاسم، لأن أهلها هم الأكثر وروداً على مصر والمشرق آنذاك، وخاصة أن منطقتهم قد عرفت بهذا الاسم قبل ذلك مع سلطنة مالي وقد ظل المخيال المشرقي يحتفظ بسرديات أسطورية عن سلطان مالي منسا موسى وحجته الفخمة الضخمة الشهيرة في نهاية الثلث الأول من القرن الرابع عشر الميلادي إلى الديار المقدسة وثرائه وعطاياه السنية من الذهب التي أغدقها على مجتمع القاهرة وفي الحجاز يومذاك، ولقائه بالسلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، وما كتبه عنه كبار الإخباريين كالعمري وابن كثير والمقريزي وغيرهم.
وأخيراً، وقد طال التعليق واستطال -للأسف- أرى أن إحالة الأستاذ سيدي محمد في هذا المنشور ذهنياً على منشوريه عن “الفداء”، ربما لكي تقاس غرائب العادات التي ذكرها اللمتوني على تلك العادات المستهجنة المذكورة في منشوري”الفداء”، لم تكن إحالة ملائمة، كما أن القياس الضمني فيها أيضاً لا أقول فاسداً، ولكن أقول إنه غير منتج، لأنه قياس مع وجود أكثر من فارق. فاللمتوني الذي استفتى السيوطي ليس من بلادنا الحالية، على الأرجح، وبالتالي فإن كل ما استفتى عنه يتعلق ببلاد أخرى، لا أقل ولا أكثر.

 

من صفحة الحسن المختار على الفيس بوك


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى