من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (3) / د. محمدو احظانا
“قال لكم من قال لكم، والبال لنا والبال لكم، والبال لأولاد المسلمين”:
إن أقوياء الوحوش اجتمعوا يوما تحت شجرة المقيل، وهي شجرة مترامية الأطراف، يسيح فيها الفارس ولا يهتدي.
أبطال الوحوش هم: الفيل وسمته أمه محمود باسم جدها، والأسد وسماه أبوه بابه على والده، والنمر وسمته أمه على خالها اعلي، والثعبان ولم تسمه أمه لأنها اشترت له عقيقة فلدغها، فماتت عقيقته قبل يوم الاسم، فلقبه أصحابه بالفليج لما كبر.
تحدث كل واحد من الأربعة الأقوياء عن مبلغ قوته وبالغ بطشه.. فلما انتهوا قال لهم الفليج: لم لا ننتظم رفاقا في صحبة ونذهب على وجوهنا فقوتنا لاراد لها، إن اجتمعنا؟
فأجابه الثلاثة إلى ذلك، وخرجوا يبطشون على وجوههم، إن اعترضت طريقهم شجرة عملاقة نطحها محمود بخرطومه فطارت في السماء بعيدا والتهمها، وإن اعترضهم حيوان مغرور بذراعه ضربه الأسد بيده فأرداه وتركه وعهده بالحياة أمس، وإن خافوا دابة تسلق لها اعلي شجرة وربض لها بين الأغصان حتى إذا اقتربت قفز عليها من السماء وقضى عليها، وإن خافوا أي كائن صغيرا كان أو كبيرا اندس له الفليج في الطريق ولدغه فمات من حينه.
في طريقهم، رأى سادة الحيوانات المتوحشة خيمة بجانبها بعض صغار الغنم تحت شجرة ظليلة، وبالخيمة المنفردة سيدة تمخض لبنها في ركوتها الجلدية، تحت ظل المقيل فتشاوروا، وقرروا أن يمروا عليها حتى تسقيهم. فلما أقبلوا فزعت؛ لكن محمود هدأ من روعها حتى اطمأنت.
كانت السيدة هي الأرنب و تدعى بين الحيوانات فاطمه بنت انجوره، قال لها محمود:
-السيدة فاطمه بنت انجوره، لا تخافي، فنحن ضيوفك نريد أن نشرب من مخيضك الطازج، فقد صعقتنا الشمس ونريد أن نرش قلوبنا بشراب بارد.
دعتهم إلى الجلوس حتى تعزل الزبدة عن المخيض.
ولما شرب الأربعة واستراحوا، وعاودتهم الخواطر الفاسدة.. أراد كل واحد منهم أن يعرف بنت انجوره على قوته:
أقبل محمود على شجرة كبيرة علق فيها رب الأسرة -الذئب- قربه التي يسقي بها غنمه. لقد خرج لرعي الغنم فجرا ولن يعود إلا قبيل المغرب، لذلك لم يصادفوه.
دفع محمود الشجرة بخرطومه فتهاوت وتمزقت قرب الماء واندلق ماؤها.
ومرت ناقة كوماء يداعب سنامها السماء فهاجمها بابه وعلى ذروتها في لحظة، وغرز مخالبه فيها، فلما تألمت ثنت إليه رقبتها لتعضه فأمسك بمشافرها وهوى أرضا فارتمت الناقة فوق شجرة قريبة وهي صريعة وقد انكسرت رقبتها.
انطلق اعلي لما رأى هذه البطولات وقد ثارت عريزة حب التفوق في نفسه فتسلق الشجرة التي يستظل بها صغار غنم الذئب، وانقض عليهم من السماء ولم يفلت منهم واحدا وتغدى بهم هو وبابه.
قلب الفليج نظره ليقوم ببطولة مشهودة فلم يجد غير رحى تطحن بها بنت انجوره ذرتها فلدغها فاحمرت فاصفرت وتطايرت فتاتا.
قرر الثلاثة أن يقيلوا بالخيمة عل ربها يعود ليشهدوه على قوة بطشهم. نام محمود على السرير فحطمه دون أن يشعر، ونام بابه على الحصير فأصبح حصيدا، ونام اعلي على النضد فحطم قوائمه ومزق خوابيه، وتلوى الفليج على سماك الخيمة حتى أحناه.
في المساء لم يعد الذئب إلى خيمته كما توقع سادة الوحوش فاتفقوا على مواصلة رحلتهم لتنويع بطشهم والتفنن فيه أمام شهود جدد.
لما أراد محمود وداع بنت انجوره وقف طول قامته فتمزقت الخيمة تمزقا لم يترك فليجة مع أختها.. وغادر الأربعة وكل شيء محطما وهم في سعادة غامرة من سكرة قوتهم، يضاحكون ويصفق بعضهم راحات بعض اغتباطا بما فعلوا من بطش.
****
قبيل المغرب عاد الذئب وهو يسوق غنمه، فراعه ما شاهده. فسأل زوجته:
– من الذي أحدث هذا الخراب يا بنت انجوره، وهتك حرمي؟
فأجابته بحماس:
– لاتسأل ولا تسأل يا محمل اندباره؛ ذلك فعل الرجال الأقوياء الذين لايخافون شيئا ولا يتهيبون فعلا يرغبون في اقترافه. قوتهم وبطشهم وإقداهم تدعوا إلى الإعجاب قبل الاستنكار. لو رأيتهم لفتنت ببطشهم وعلمت أنك لست مشتغلا بشيء ذي بال، صدعت رأسي بالفخر والثناء على نفسك دائما. إنهم هم الأبطال وليسوا مثل من يتخفى ولايواجه أحدا بل يجعل الاحتيال وسيلته الوحيدة للكسب.
أجابها محمل اندباره وقد أثر فيه تجريحها وأسرها في نفسه:
– اصبري، ستعرفين غدا من هو البطل؟
****
في الصباح الباكر أمر محمد زوجته برعاية الغنم وأخذ حقيبة سفره الصغيرة ودس فيها موسى حلاقته وخرج في أثر أبطال الوحوش.
بعد أن صار الطائر يطير وينزل من لفح الشمس أدركهم مقيلين تحت شجرة يعرفها كل الركبان والراجلين تدعي “صدراية لمكيل”، وهم يتغدون ويتجاذبون أطراف الحديث، فسلم عليهم بأدب. وردوا عليه السلام.
فقال لهم:
– لقد أعجبتني قوة بطشكم، ولكنني أسفت لعدم وجودي في خيمتي حتى أذبح لكم من غنمي، وأحسن ضيافتكم.
– وما حاجتك منا الآن؟
– أريد أن أرافقكم لأخدمكم، فأنا لست على مستوى يمكنني من التكافؤ معكم حتى تصحبوني.
فأجابه الفليج:
– أحسنت. من لم يكن بطلا يجب أن يخدم الأبطال.
قال له محمل اندباره:
– لكن لدي شرط.
– وماهو؟
– إذا أراد الرجال أن تكون صحبتهم دائمة، وأحرى إذا كانت أمزجتهم متقلبة؛ فعلى كل واحد منهم أن يبين لرفاقه ما لايصبر عليه ويثير حفيظته حتى يتفاداه رفاقه.
أحسنت. قال الفليج:
– أما أنا فيثير بأسي أن يتخطاني أحد.
وقال محمود:
– أما أنا فيثير بأسي وحفيظتي وبطشي أن يلمس أحدهم خرطومي.
وقال بابه:
– وأنا، لايثير بأسي شيء كما يثيره أن يلمس أحدهم ذيلي ولو بحصاة.
وقال اعلي:
– أما أنا فإن بأسي من نصيب من يحدق في وأنا نائم.
قال محمد:
– أما أنا فبأسي في من يستخف بي.
– اتفقنا. قال الجميع.
****
تمدد بابه على الأرض ونام قيلولته.
تسلق اعلي جذع الشجرة ونام قيلولته بين فرعين منها.
افترش محمود أذنه ولبس الأخرى ونام قيلولته.
وتلوى الفليج على جذع الشجرة، ونام قيلولته.
أما محمد اندباره فتناوم حتى سمع شخير الأربعة، فأخذ حصيات ورمى بها ذيل بابه، وعاد إلى تناومه بسرعة؛
استيقظ بابه غاضبا وثبت عينيه على اعلي.
استيقظ اعلي متنطعا، فقفز على رأس بابه ونشبت بينهما معركة حامية، أيقظت محمود.
قضى بابه على اعلي. لكنه مس خرطوم محمود أثناء القتال مع اعلي فأقبل على بابه ولف خرطومه على عنقه وخنقه حتى مات. وفي الأثناء كان الفليح يحاول جاهدا الحيلولة بين الوحشين فتخطاه محمود وداس على ظهره وقصمه فلدغه لدغة قتلته وماتا معا.
****
فتح محمل اندباره حقيبة سفره بهدوء وأخذ موسى حلاقته، وشق عن قلوب سادة الوحوش، واستأصلها واحدا واحدا ودسها في الحقيبة، وقفل راجعا إلى منت انجوره.
****
وصل محمل اندباره إلى خميمته الممزقة بعد حلول الظلام، فطلب من زوجته أن توقد نارا كبيرة، وفك رباط حقيبة سفره وأخرج قلوب الوحوش العظيمة واحدا واحدا؛ فاندهشت بنت انجوره دهشة كبرى.
سألها محمل اندباره معتدا بنفسه:
– أهم الأبطال؛ أم أنا الذي قتلتهم، وجلبت قلوبهم في حقيبة سفري؟!
فأجابته بنت انجوره بحسم وقد استخفها الحماس:
– بل أنت البطل.
“انتهت المردة، وربطت أنا نعلي، ورجعت إلى أهلي سالما، أحدث بالحكاية دائرا عن دائر”.
م. أحظانا