حينما أنقذ الخليل عامنا الدراسي !!! – تدوينة
منتصف تسعينات القرن الماضي، أصر عميد كلية الحقوت والعلوم السياسية بجامعة تونس المنار، على أن يمتثل جميع الأساتذة للمسطرة التنظيمية التي تفرض تسجيل حضور وغياب الطلبة قبل بدء المحاضرة.
كان عملاق القانون العام المرحوم الدكتور الأزهر بوعوني، قد عارض تلك الخطوة منذ البداية وبشدة، محتجا بأن وقت المحاضرة أثمن من أن يضيع في النداء على طلبة المرحلة الثالثة الذين يفترض أنهم وصلوا مستوى من الوعي يمكنهم من اتخاذ القرار المناسب بشأن الحضور من عدمه.
ولما أصر المجلس العلمي على قراره لم يكن أمام بوعوني بد من الانصياع، لكنه بالمقابل نبه إلى أن تبعات تلك المسطرة ستطبق بحذافيرها وعلى الجميع.
مرت السنة طويلة على الأستاذ الذي كان عليه أن ينادي قبل كل محاضرة على أكثر من مائة طالب، مسجلا حضور أو غياب كل واحد منهم.
كان كثيرا ما اكفهر وجهه أثناء أو بعد النداء، متوعدا بمفاجأة غير سارة لبعض الطلبة نهاية السنة وهو ما كان.
ضحى يوم الجمعة، نهاية شهر يونيو، علقت لائحة الطلبة المسموح لهم بدخول امتحانات الدورة الأولى ووزعت عليهم الاستدعاءات.
كانت المفاجأة أن 43 طالبا من أصل 103 غابت أسماؤهم عن اللائحة، ما يعني ضياع سنة كاملة من أعمارهم التعليمية.
كان الأمر صادرا عن الأزهر بوعوني، تطبيقا للائحة التنظيمية التي تقضي بمنع المتغيب خلال السنة ثلاث حصص من حضور الدورة الأولى، ومنع المتغيب خمسا من الدورتين.
لم يجد تدخل العميد نفعا في ثني “بوعوني” عن قراره، أو على الأقل استثناء الطلبة الأجانب باعتبار أن لهم وضعا خاصا. كان رد الأخير أن أنه درس لعقود من الزمن لطلبة الكلية أن من خصائص القاعدة القانونية كونها عامة ومجردة، وأنه ليس مستعدا لتكذيب نفسه أمامهم، فالقانون إما أن يطبق كله وعلى الجميع أو يلغى كله عن الجميع وهو ما ليس مستعدا للقبول به.
كنا أربعة موريتانيين في القسم، أقصي ثلاثة منا ونجى الرابع بأعجوبة.
توجهنا إلى السفارة فأوفدت المستشار الثقافي حينها، لكن الأستاذ رد سفارته بل ورفض مقابلته لأنه -في رأي ،بوعوني” كان في زي وهيئة لا تليق بممثل يعثة دبلوماسية محترمة موفد إلى هيئة علمية مرموقة.
والواقع والحق يقال، فإن للأستاذ بعض العذر حين استعجل في الحكم على مظهر المستشار دون انتظار استكناه مخبره.
كان الرجل أسحم جونا نحيفا يرتدي إمبجامية خيطت من قماش رديئ تغطيه رسومات إفريقية غامضة
ويلبس من نفس القماش، سروالا فضفاضا قصيرا ينحسر عن ساقين في منتهى الحموشة.
كان مظهره في الواقع يضعه في خانة من إن خطب لا ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله.
بعد أن رد طلب السفارة لم يبق أمنا غير اللجوء إلى ذي الوجه الذي لا يرد، الشيخ الخليل النحوي.
دخلت أنا وأحد الزميلين مكتب الشيخ بمقر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهرا ونحن في عز الصيف وتونس لا تكاد تتنفس من حر الصهد المنبعث من جبل “بوقرنين”
كان الشيخ جالسا خلف مكتبه، غارقا بين الكتب ولأوراق،
استقبلنا بوجهه الباسم وبشاشته التي جبل عليها، سردت عليه القصة بالتفصيل، فقال بصوته المحبب: لالا لن يحدث ذلك إن شاء الله، أخذ منا المعلومات المتوفرة لدينا عن الأستاذ والمقتصرة على اسمه ومهنته وأنه ينحدر من مدينة ‘سوسة” الساحلية، والأرجح أنه توجه إليها القضاء إجازة نهاية الأسبوع قبل الإنخراط في معمعان امتحانات نهاية السنة.
غادرنا المكتب متسائلين مالذي بيد الشيخ ليجعل ذلك العتي المتبذخ المتغطرس المتجبر، يعدل عن قراره الذي رفض بشأنه مناشدات زميله العميد، ورد مبعوث سفارة دولة شقيقة.
سنعرف بعدها أن الشيخ ركب من حينه سيارته متوجها إلى مدينة “سوسة” وحصل ما حصل مما لا يفهمه إلا المؤمنون بقوة الجبر والتسخير، لتعلمنا عمادة الكلية بأن “بو عوني” على جلالته، سيعود صباح السبت – قاطعا إجازته – إلى الكلية، ليلتقي بكل طالب على حدة، ويناقس وضعهم حالة بحالة.
حشر الممنوعون من الامتحان صباح السبت أمام مكتب الأزهر بوعوني.
كان كل منا يحاول التأخر في الدخول طمعا في أن يمتص المتقدمون أكبر قدر ممكن من غضب ذلك الهزبر المجروح.
دخلت وحدي كغيري فألفيته ممسكا بالورقة الخاصة بي، نظر إلي بطرف عينيه ورما بالورقة على المكتب قائلا بلهجته التونسية: “هاذ موش خليقة متاع طالب علم، وأراني باش انكلم صديقي ولد لبات وانقولو ماعادشي يبعثنا هاذ الأشكال” لم يألو الرجل جهدا في إيذائي في نفسي، فأمطرني بما أسعفته به الذاكرة من عبارات التنقيص وأنا مطرق لا أنبس ببنت شفة، فأي إيذاء لفظي يهون إن حال دون حسارة عام دراسي كامل.
بعد خروجي عرفت أن الجميع أخذوا نصيبهم من القذع وافيا غير منقوص.
لم يكن الرجل يقبل الأعذار ولا المبررات، قالت له إحدى الطالبات مبررة غيابها بكونها على وشك أن تلد، فكان رده عليها: لم لم تستشيريني قبل اتخاذ قرار الحمل.
بعد أن وزع الرجل علينا بعدالة ما خزنه لسنين من عبارات لم يجد مناسبة لإخراجها، أخذ ورقة وكتب قراره الذي سمح بمقتضاه لعشرة من الطلبة بمن فيهم ثلاثتنا بالمشاركة في الدورة الأولى، وللبقية بالمشاركة في الدورة الثانية.
كانت تلك إحدى كرامات الشيخ الخليل التي ما زلنا نتساءل كيف حدثت فلا نجد من جواب سوى ما وضع الله للرجل من محبة وقبول في قلوب العباد وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
البس الله الشيخ الخليل لباس العافية وأتم له الشفاء وجعل ما قام ويقوم به من أعمال الخير والبر في ميزان حسناته.
من صفحة الدكتور عبد الله ولد امون على الفيس بوك