عالم موريتاني يكتب عن ذكرياته مع حسن الكرمي – يستحق القراءة
ذكريات مبعثرة (72)
مع استهلال عام 1978 كنت قد أصبحت مستمعا مخلصا للقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، الذي تقلص اسمه ومسماه منذ سنوات فأصبح BBC العربية الناطقة باللهجات الشعبية باستثناء الحسانية التي “تترجمها” إلى العربية!
كنت أستمع بشغف ممزوج باستغراب إلى تلك الكفاءات الإذاعية الفريدة التي تتحدث من شعب بوان (غرب أوروبا) معجبا بفصاحتها واقتدارها مبهورا بالمواد المختلفة التي تقدمها.
في تلك الأيام ولد برنامج “عالم الظهيرة” وكانت تقدمه مديحة المدفعي ويخرجه مؤتمن جزار فكانت مديحة بذلك أول امرأة تقدم برنامجا إخباريا في البي بي سي كلها؛ متقدمة على الخدمة الإنگليزية (World Service) وكان المرحوم محمد مصطفى رمضان نجم تلك الإذاعة المتألق.
كان أكثر ما يمتعني البرنامج الأدبي المشهور “قول على قول” للمرحوم حسن سعيد الكرمي (ت 5 /5/ 2007 عن قرن شمسي وعامين) وبرنامج “السياسة بين السائل والمجيب الذي كان صوت جميل عازر يرافق إشارته المميزة “هنا لندن.. السياسة بين السائل والمجيب” واستمر كذلك حتى تغيرت ملامحه في صدر عام 1989. وخلال ذلك تعاقب على إعداده وتقديمه كل من منير عبيد وخالد سمعان وعبد الرزاق السيد (ت يوليو 2008).
استفدت من هذا البرنامج رصيدا سياسيا متنوعا للغاية صار الآن مخزونا تاريخيا أستميح منه وأكمل منه الجزء المفقود من الصورة المعاصرة التي لا أرى استيعابها دون الماضي إلا اجتزاء لا يسمن ولا يغني من جوع.
وفي فترة لاحقة كانت لدي مكتبة صوتية من برنامجي “قول على قول” والسياسة بين السائل والمجيب” أعود إليها عند الاقتضاء، وقد جرى “نهبها” تباعا عن طريق الإعارة.
ولعل من المواظبين على سماع “قول على قول” من يذكر أن الكرمي بدأ يحيي مستمعيه عند الوداع من عام 1986 واستمر كذلك حتى توقف عن تقديمه مستهل يوليو 1989، وكان السبب في ذلك تنبيها ووجهته إليه عن طريق برنامج “رأي المستمع” حيث استضافته عبلة الخماش في “رأي المستمع” وطرحت عليه ملاحظتي اختصارا “يدخل الأستاذ حسن الكرمي برنامجه الأدبي دون أية تحية للملايين الذين يترقبونه بشغف بالغ، كما أنه يخرج منه دون وداع! فهل يليق هذا بمن ينبغي أن يكون قدوة في الأخلاق”!” وعند ما عرض عليه هذا رد بالقول: “نعم، هذا اعتراض معقول وأنا أقبله. وقد كنت في السابق أحيي المستمعين وأقول في البداية: سيداتي وسادتي، وفي الختام: والسلام عليكم، ودأبت على هذه الطريقة مدة طويلة حتى أصبحت هذه الطريقة آلية وليس لها المعنى الذي أتوخاه. ولكن أنا أيضا أنزل عند الرأي الصائب، ولذا شرعت من الآن في اختتام برنامجي بالقول: والسلام عليكم. فإذا رضي المستمع الكريم بهذا فهو كرم منه، وإلا عدت إلى عادتي الأولى فأقول في بداية البرنامج: سيداتي وسادتي، وفي ختامه: والسلام عليكم، وهذا كاف فيما أعتقد” وضحك الضحكة الوحيدة التي سمعتها منه في حياتي، كما كان هذا الرد الوحيد الذي سمعته منه على ملاحظة ناقدة لبرنامجه المشهور.
عندما تخلى ابن القدس المنتمي إلى طولكرم عن برنامجه الفريد عائدا إلى عمان ودع وداعا مؤثرا سمعته من مذياعي الخفيف وأنا أتنسم عبق الخريف أصيلا على ربى انوللَان شرق تگند الجديدة وتوقف البرنامج لارتباطه بشخص الرجل؛ لذا حاولت البي بي سي الاستمرار في تقديمه من خلال الإجابات مبتورة عن أسماء السائلين وأماكنهم، وعهدت بذلك إلى د. فيصل القاسم الذي كان شابا حديث العهد بدراسة المسرح (قبل أن يجرفه طوفان السياسة) والأديب محمد سليمان، ولكن وقع البرنامج المعدل لم يكن بمستوى المادة الأصلية.
وقد حاولت مجلة “العربي” في الفترة ذاتها (1989 – 1990) نشر بعض إجابات الكرمي تحت العنوان نفسه (قول على قول) وكان يمكن أن تنجح في ذلك لولا أن الاجتياح العراقي (02 /8/ 1990 – 26 /02/ 1991) كان مفصليا في موقف الكويتيين من الفلسطينيين وفي تاريخ المجلة ذاتها واهتماماتها كما هو في تاريخ المنطقة حتى اليوم.
من صفحة العالم والأديب/ محمد سالم ولد جدو