الحُجج البهية في الرد على دعوة الحذف و”التصفية”/ د. سيدي أحمد سيدي الخليل
بين يدي المقال:
أولا هذا المقال لا يرد على شخص بعينه؛ وإنما على أي شخص يدعو إلى حذف بعض مختصر خليل أو التراث الفقهي عموما؛ وليس هذا هروبا من التعيين الذي لايضر في هذا السياق؛ وإنما لأن هذه المسألة لم تثبت نسبتها ثبوتا علميا لشخص بعينه.
ثانيا صحيح أن شيخنا الخليل النحوي سيُذكر في هذا المقال باعتباره الوحيد الذي تناقل عنه أهل هذا الفضاء هذه الدعوة؛ وباعتباره الوحيد الذي يستحق الرد ممن تنقل عنهم دعوات مشابهة.
ثالثا إن ثبتت نسبة القضية له فهذا رأيي في الموضوع ؛ وإن لم تثبت – وذلك هو الظن – فهذا رد استباقي على من سيدعو – أو دعا – إلى حذف شيء من مختصر خليل؛ وما كنا ركوبا ولا طحنا.
والفقه الافتراضي الاستباقي سبقَنا إليه الأحناف.
رابعا بحكم تكوين الأكاديمي – يَبرّ – لا أرفض تجديد الفقه وتهذيبه؛ بل أدعو إلى تجديد الفقه وتهذيبه وتأصيله؛ وأرفض حذفه وطمسه وتصفيته؛ وأزعم أن التراث الفقهي منجم زاخر لو وجد الخبراء لاستغنينا عن كل تشريعات الدنيا.
خامسا هذا نقاش علمي وفكري يبحث عنه في بطون الكتب ونتائج الأفكار؛ لا في عالم السياسة والبحث عن التغلب والانتصار؛ لذلك لا ينبغي إخراج هذا النقاش عن حقله المعرفي.
سادسا وأخيرا: هذا وإن شيخنا الخليل النحوي له مكانة سامقة في العلم والفضل والأدب ؛ إضافة إلى لين عريكة؛ وعذوبة أخلاق؛ وتصاون؛ وطيب نفس؛ ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
نحسبه كذلك ولانزكي على الله أحدا.
وشخصيا أحب شعره ولا سيما حين يهمس ويتأوّه في غرض الرثاء:
لو انفجر القلب الشجيّ لأحرقا@
أو انتثر الدمع العصيّ لأغرقا@
فما باله يبدي التجلّد باسما@
“ويا شجر الخابور ما لك مورقا..”.
لأي مدى تمضي على أنك المدى@
أأبعد من هذا تروم وأحمدا @
تعودتَ تَصعاد الثنايا وإنما@
“لكل امرئ من دهره ما تعوّدا..”
فإلى المقال:
خليلٌ جليلٌ في العلوم مقامُه…
حصل خليلا واصرف الهمة لهْ@
فقد حوى مائة ألف مسأله @
نصا ومثل ذلك في المفهومِ @
فإن شككتَ اعدده في المرسوم.
قرأتُ على هذا الفضاء وبنسبة كادت تبلغ التواتر – دون أن أجد توثيقا خاصا – أن بعض أهل الفضل طالب بتوقيف دراسة مختصر خليل حتى يغربل ويحذف منه كل ما له علاقة بالرق!!!
والحقيقة أنني صدمتني هذه الدعوة وصدمني أكثر صدورها من أهل الفضل والخير.
وللتحفظ على هذه الدعوة أبدي ملحوظتين:
الملحوظة الأولى أن أصحاب هذه الدعوة ربما استندوا إلى فعل يشبه هذا وهو أن بعض محاظرنا كانت تتجاوز أبوابا من “خليل” لا تكتبها كزكاة العين والحج والجهاد..
وهو ما ألمح إليه الشيخ محمد مولود من وراء حجاب بقوله – مرجحا الاشتغال بمحارم اللسان-
وهُو أوقع في ذي البقاع@
من الرهان وخروج الساعي..
وهذا قياس مع الفارق فهاؤلاء فعلهم يدخل في تقديم الأهم مع أنهم لم يدعو إلى شطب ولا إلى حذف أو حرق!
لأن حذف بعض المتون مخل بالأمانة العلمية؛ وسطو على الملكية الفكرية!
أترى “خليلا” حين قال: “فما كان من نقص كملوه ومن خطإ أصلحوه” خطر بباله مثل هذا “الإصلاح” الذي يقضي على أبواب برمتها ويحكم عليها بالحذف!
هل تراه سيرضى عن اتخاذه كتابه ألعوبة بيد السياسيين يغيرون فيه متى شاؤوا وكيف شاؤوا!
اليوم أحكام الرق؛ وغدا أحكام المرأة؛ إذ في “خليل” وغيره أن المرأة لا تشهد إلا في نطاق محدود: المال وما يؤول إليه؛ وما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والاستهلال؛ وفيه أن المرأة لا تلي أمر النكاح؛ وفيه أنها لا تزوج نفسها؛ وفيه أنها لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها؛ وفيه أن للزوج أن يمنع الزوجة من التبرع بما زاد على الثلث… إلى غير ذلك مما فيه “تقييد لحرية المرأة وظلم لها ” وسترون إن طال بكم الزمان من يطالب بحذف “أحكام المرأة” من “خليل”.
ولولا ضعف “الحركة النسوية” عندنا لكنتم قد رأيتم المطالبة بذلك سابقا!
وما أحسن قول مالك حين استشاره أحد الخلفاء العباسيين – وأظنه المهدي – في أن ينقض منبر رسول الله صلى الله ويبنيه بأحجار كريمة ويزينه وينمقه؛ فقال مالك: لا تفعل يأمير المؤنين فتجعل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألعوبة بيد الملوك كلما جاء ملك نقضه بحجة التحسين والتزيين فتسقط هيبته من قلوب الناس.
وأنا أيضا أقتدي بمالك فأقول: يا معشر السياسيين اتركوا لنا “مختصرخليل” لا تجعلوه ألعوبة في يد السياسيين كلما شعر سياسي بوخز “حقوقي” أو ابتزازه أخذ يقترح حذف فقرات أو أبواب من مختصر خليل؛ فتسقط هيبته من قلوب الناس وتنعدم الثقة بما فيه!
لا تزرموني! – أو تُوَهبوني – حين شبهت “خليلا” بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا “محب” مثلكم؛ وسأحتفل معكم بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن العلماء نصوا على أن الشخص المسلم أعظم عند الله وأكثر حرمة من الكعبة المشرفة ومكة المكرمة والمسجد الحرام والمسجد النبوي.
فخليل أكثر حرمة من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يخل بالأدب.
نعم لو قيل إن أحكام الرق من خليل لا ينبغي أن تدرس في القنوات الفضائية والتلفزيونات مخافة التشويش والتلبيس على العامة بأمر قد لا تكون فيه منفعة لهم؛ وقطعا للطريق على جاهل يتربص بالفقه والفقهاء دون أن يسمع منهم أو يفهم عنهم لكان لذلك وجه بل له حتى دليل .
ولكن تبقى تُدرس في محاظر التحصيل؛ ومدرجات الجامعات للبحث والتأصيل؛ مع تنبيه الشيخ أو الأستاذ – كما أفعل مع طلبتي دائما – إلى أن الرق لم يعد موجودا وأن الدولة جرمته؛ وأن الفقهاء أقروا ذلك نظرا لتشوف الشارع إلى الحرية كما هي عبارتهم جميعا؛ وأن من استعبد محررا فرسول الله صلى الله عليه وسلم خصيمه يوم القيامة.. وأن الإسلام حين وجد الرق تعامل معه بإنهاك وإنهاء وفتح ألف باب للتخلص منه؛ واحترم آدمية الرقيق وكرامته في حين أن الاستعباديين من وراء البحار عملوا الفضائح تجارة وإهانة…
وهكذا يمكن للفقيه النابه والباحث الحصيف أن يُحوّل تدريس أحكام الرق إلى محاربة الاسترقاق ونبذه لاتدعيمه ودعمه..
هذا إذا كنا نعترف بأنه وقع في الإسلام رق ما بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ورسم منهجا للتعامل معه؛ أما إذا كنا لا نعترف بذلك فتلك “بلاوي” ليس هذا مكان الرد عليها!
وأما الحذف فلا؛ نعم:لا؛ لأن الحذف جناية على التاريخ؛ وسيلفظها التاريخ كما لفظ مثيلاتها من قبلُ؛ علاوة على أنه تسور على الملكية الفكرية واعتداء عليها.
ثم إن حذف أحكام الرق – وهي بالمناسبة متفرقة في خليل ولا يضبطها باب؛ فقد بدأت من الصلاة: عورة الأمة إلى التركة يعني من بداية الكتاب إلى نهايته ؛ فالتصفية إذن ستكون مكلفة؛ وربما تفسد المبنى والمعنى – قد يجعلنا نفقد علة دلالة أو علة قياس في تلك الأحكام لا تعلق لها بأحكام الرق؛ فأبواب الفقه – بل العلوم كلها- تتعاور أي يستعير بعضها من بعض – وسيظهر ذلك بجلاء إن شاء الله في كتابي: “الاستطراد في الكتب” إن مد الله في العمر وكتب له الكمال – تماما كحروف الجر فإنها تتعاور ويأخذ بعضها مكان بعض.
الملحوظة الثانية:أن هذه الدعوة جاءت – على ما يبدو – تحت ضغط الواقع؛ وسياط الواقع الأكثر إيلاما وابتزازا؛ لكنها عند جعلها على محك البحث والدراسة سنجد أنه لا ترابط بين توطيد الرق وتبين أحكامه.
ومن لم يدرك الفرق بين الحكم النظري المسقَط على واقع معين لوجود سببه؛ وبين تنزيل ذلك الحكم النظري على واقع مختلف غاب عنه السبب؛ وقع في تلك المتاهات!
وعليه أن ينادي بحذف – أو حرق – قوله تعالى:
1- “فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا”.
2- وقوله تعالى: “فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب “.
فقول خليل: “وتشطر بالرق” هو مضمون الآية بالتمام والكمال.
3- وبحذف أحاديثه صلى الله عليه وسلم التي تتكلم – ولا تدعو – عن الرق.
4- وبحذف أبواب البخاري وغيره من المحدثين: باب المكاتب؛ باب المدبر؛ باب أمهات الأولاد…
5- وينبغي أن يطال الحذف النحو فيحذف قول ابن مالك في الألفية:
كضربي العبد مسيئا وأتم@
تبييني الحق منوطا بالحِكمْ.
6- ثم إنه لا ينبغي أن نحذف الفقه ونترك الأدب فلنعمل جولة في دواوين الأدب؛ ولنحذف لفظة العبد من جميع الشعر؛ فلا نشتري ديوان المتنبي من المكتبات: “.. إلا والعصا معه..”!
وهكذا تُغربل جميع الفنون ويُفسد معناها ومبناها بسبب كلمة لا أحد يدعو إلى تطبيقها!
والخلاصة أن هذه سليسلة بنت سليسلة – كما قال مالك في سياق آخر – فالعبودية لا تكافح بالحفريات في بطون الكتب؛ ولا بالسطو على الملكية الفكرية لأصحابها؛ وإنما تكافح بالتوعية والتعليم الناجح؛ والتمييز الإيجابي المنضبط؛ ودعم الفئات الهشة..
أما التراث الفقهي فهو سياج الوحي؛ ولو حذفتم بعضه لطلب منكم حذف بعض الوحي قريبا!
وأختم بملحوظتين أيضا:
الأولى: من كان يظن أن المقال سيكون عبارة عن إعلان حرب أو سيشتمل على عبارات تخل بالأدب والحصافة فسيُصدم؛ ويبدو جديدا على الصفحة؛ ومن أراد أن يجد ردا على تلك الدعوة فسيجد بغيته في هذا المقال بإذن الله تعالى.
الثانية: أن المقدمة فيها ما يشبه بعض مضمون قصيدة ول محمدي “آمسگري” التي كانت بسبب “آمّيش التلحين”:
يا منكرا جمعنا حَرْفا على حِرَفٍ@
لتتئدْ لا تكن للمرتمي هدفا@
إنكار من ليس يدري اشدد به غررا@
إذ هو من جُرف الألحان فوق شفا@
ينهار من هذر والصمت يثبته@
والفر قبل اللحاق للجبان شفا..
فجاءت القصيدة الرادة ثم جاءت “لمسگريه” فقال الشيخ سيدي الكبير : ليته يهجونا كل يوم ويمدحنا بمثل هذه القصيدة…
أو هكذا يحكى.
سيداحمد سيدي الخليل.
#ملحوظة:
هذا المقال نشرته قبل سنتين.