ثقافة

ظرافات وظرفاء (44) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

في إحدى ليالي سنة 1993 (أو تاليتها) كنت قرب سوق عرفات على الشارع المنحرف من طريق القوارب إلى طريق الأمل (شارع الدايات) الذي لم يكن يومئذ أكثر من أخدود رملي في عمقه أخدودان أصغر حجما جراء السيارات والعواصف؛ هذه تطحن الأرض وهذه تذروها!
كان في جيبي مبلغ نقدي “معتبر” بتعبير المسؤولين وصحافة اليوم، وكنت في سبيلي إلى الميناء مما يلي الوقفة، وأود عيادة مريض في “كبة مندز” مما يلي “طب 10” ولم يكن النقل منتظما بين عرفات والميناء في تلك الأيام؛ خصوصا من عرفات (وبالأخص في الليل) أما إلى باقي المدينة فلا يوجد تقريبا ما لم يصل المرء إلى طريق القوارب.
كنت كلما أضاءت سيارة قادمة لاحت لي الأيدي كأجنحة الطير تستوقفها دون جدوى؛ فهي إما شخصية أو مشحونة. لذا توجهت إلى طريق القوارب دون أن أترك استيقاف ما يمر بي من سيارات، لعل وعسى. وحين قاربت الطريق المعبد كانت سيارة قادمة إليه عبر “شارع الدايات” لوحت لها كما لوح لها غيري وكما لوحنا جميعا لغيرها، ولكن الفرق تجلى في كونها تجاوزت المشيرين وتوقفت لي فركبتها!
لم يسألني السائق عن شيء وإنما فتح الباب بسرعة فدلفت إلى الداخل واعتدلت عن يمينه ثم بدأت أكتشف المكان والإنسان. 504 تعمل بالديزل (لم تكن قد تفشت السيارات الخفيفة التي تستعمله) يقودها أربعيني متقنع بملحفة، سلمت عليه فلم يرد السلام، ثم سألته هل يمكنه إيصالي إلى “طب 10” وأزيده فلم يردد أيضا!
حين وصل الرجل إلى الطريق المعبد انعطف ذات اليمين كما هو المنتظر بسرعة عالية، وعند مركز الشرطة (بيت ابوليس) عدل غربا حيث لم يكن هناك شارع واضح ولا سكان؛ بل قطع أرضية مسورة بحيطان غير مأهولة يلفها ظلام دامس. ثم انطفأت السيارة فجأة في حضن جدار فارغ فسألته بهدوء مصطنع: “ذي الطفيه أصلا عاديه فيها؟” ولم يجبني ثالثة، وإنما نزل وجلس على بعد مترين أو ثلاثة وتصرف بعفوية!
بدأت أرتاب في الرجل وزادني كونه يلف رأسه ووجهه بملحفة، وسيارته مظلمة من الداخل، وحملني دون غيري، والسرعة المفرطة، والتوقف المفاجئ، وزمانه (ليلا) ومكانه (مظلم مهجور) خصوصا وأني أحمل نقودا، وأن حالات إجرامية جرت خلال الثمان والأربعين ساعة السابقة، من بينها صاحب حانوت خدعه من زعموا أنهم باعة لغاز البوتان بسعر رخيص، وكاتب ضبط سُلِبَ ماله وثيابه وترك لبرد الشاطئ.
ثار الأدرينالين في جسدي، وفي حوالي دقيقة توصلت إلى يقين بأني وقعت في ورطة كبيرة، واتخذت قرارات مصيرية أتذكر منها:
1. الحل في الإقدام مع التعقل؛ فأي اضطراب أو تعجل ربما أوقعني في الهلاك.
2. بناء على ذلك لا جدوى من الفرار ما دام الرجل ذا سيارة.
3. إذا كان مسلحا أو مدعوما بغيره فقد انتهى الأمر، وإن كان أعزل وبمفرده فالمعركة متكافئة.
4. سواء أكان فردا أم جماعة، ومهما كان نوع السلاح المستخدم فسأقاوم حسب طاقتي.
وتنفيذا لذلك تلمست حولي بسرعة حتى عثرت على قضيب معدني قرب قدمي تفحصته لمسا فإذا هو مفك العَجَلات ولم أجده مناسبا للمهمة نظرا لعَوَجه البنيوي، ولكني لم أجد وقتا لمزيد من البحث فيما حولي من السيارة فها هو الرجل قد أقبل منهيا مهمته، وليس لي غير الرضى بالمتاح.
قررت أن أعمل فيه القضيب – مهما تدنت كفاءته- بمجرد مد يده إلى ناحيتي لأي سبب كان، ومهما كان جمعه وعدته، وتحفزت بانتظار ثانية الصفر.
جاء الرجل فأدخل يده من ناحية المقود ويبدو أنه جذب شيئا فسمعت صوت انفتاح مقدم السيارة، ثم عاد فرفع الغطاء وسمعت طرقات ربما كانت على الموقد (دمريير) ثم عاد فحرك المفتاح فدار المحرك فأطبق عليه الغطاء وجلس في مقعده وانطلق.
ما إن وصل إلى طريق ميناء انواكشوط القديم حتى انطلق معه بسرعة فائقة باتجاه الشاطئ، لا مجال للشك، إذن فقد اصطادني لعصابته فلم يجدها حيث افترض فقصدها بي على الشاطئ!
لم يكن إغلاق زجاج نوافذ السيارة محكما فكان عويل الهواء يزداد كلما ازدادت السرعة، وكأنه موسيقى تصويرية لتراجيديا منتظرة. وحين وصل إلى قاعدة البحرية الوطنية خفف السرعة قليلا وانعطف يمينا داخل “كبة مندز” من حيث تستدير باصات النقل التي كانت وافرة آنذاك، وسار مع طريقها فبدأت الطمأئنينة تعاودني بشكل نسبي، وحين قاربنا “طب عشره” طلبت منه التوقف فواصل السير بسرعة فأعدت الطلب بصوت عادي مرة ومرتين دون استجابة منه، ثم رفعت صوتي وضربت مقدم السيارة بيدي، فحسر الملحفة عن أذنه اليمنى ومال نحوي وقال بصوت عال: “ياه؟” فأجبته بصوت عال أيضا: وگَّفْ!” فداس المكبح وثار الغبار فوضعت المفك بهدوء ومددت يدي إليه بالنقود فرفض مخبرا بأنه لا يمارس النقل، فمددت إليه يمناي مودعا فصافحني باهتمام وقال: “آن انگول لك الخير فيَّ ثقل السمع اشوي” فقلت في نفسي: “واللهِ ماهُ اشوي!” ونزلت غير مصدق بما تبدى لي من الحقيقة بعد ما رأيت من قرائن السوء ومؤشراته؛ حامدا الله تعالى على أن الرجل لم يحتج إلى شيء في ناحيتي من سيارته حتى لا أصيبه بأذى فأجازيه جزاء سنمار.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى