ظرافات.. وظرفاء (26) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
في خريف عام 1987 كنت بالبادية ضمن مجموعة من حوالي 20 شابا، كنا نستمتع بالهواء والأرض والناس، وبإيداع أحد لداتنا في الأَسْر الذي سبقه إليه منا واحد وتساقط الباقون في أقفاصه تباعا بعد ذلك كما يتساقط الفراش في “النور”.
كان نهارنا يمضي في اللحم والشاي وظامه، ويمضي صدر الليل في أحاديث بعضها أدبي. (بزيادة التبغ في حق البعض). وكان أحدنا يجسد الطرافة في كثير من أقواله وأفعاله طبعا بغير تطبع، فكنا نستمتع به كما نستمتع بالخريف واللحم والشاي وأهل البدو.
كان صاحبنا المذكور قليل الدراية بظامه، لذا يكتفي في الغالب بالاقتراب منها، وإذا حدث أن “نزلها” فكر طويلا ثم قاده تفكيره إلى الخطأ! قلت له مرة إنه ربما كان يفكر في “الغلب” التالي، لأن تفكيره يطول ولا تظهر له نتيجة في الحاضر.
وفي أحد الأيام تشاكس اثنان منا – وكانا من ذوي القوة البدنية- أيهما يلعب أولا، فكان كلما جلس أحدهما مجلس اللاعب جاء الآخر من خلفه فحمله بهدوء وأزاحه وجلس مكانه فيجيء الثاني فيفعل الشيء ذاته، وتكرر ذلك مرات دون إسقاط عود أو زحزحة بعرة أو محو خط!
كان صاحبنا – كعادته- قريبا من الميدان فجرت المعركة فوقه تقريبا وعيناه تبرقان وشاشته الصغيرة (وجهه) تترجم ما يجول في نفسه من خوف، ولسان حاله يقول: اللهم سلم سلم.. وعند ما هدأ الحال واطمأنت نفسه تنفس الصعداء وابتسم وقال لهما: “إيحَشَّمْكُم مَطْيَبْكُمْ”!
وذات ليلة كان بعضنا في سمر أدبي تناشدنا فيه نصوصا مختلفة منها قول امحمد ابن هدار يخاطب الأمير سيد أحمد ابن عيده:
غلظك گام اعليه ناعر ** عودانك ما گمت جاعر
ما گط امر اعظيم واعر ** دخلك منُّ ريب
كيفته ما گط شاعر ** طلعك منُّ عيب
.. إلى آخره.
وكان صاحبنا نائما فيما ظننا، ولكنني حين وصلت إلى قول ابن هدار:
تركب خوف اتعود هبتُ ** فوگ احصان اجريبْ
واجريبيك إلى اركبتُ ** يمرگه لكذيب
تحول من جنب إلى جنب وقال: “كأنه يصفني”! فأكملنا سمرنا بموجة من الضحك والتعليقات على البون الشاسع بين الرجلين وخلو صاحبنا من معظم الصفات المذكورة..
في تلك الأيام سئمنا من الأكل والشرب والشاي فسارت طائفة منا إحدى الأماسي تضرب في الأرض دون هدف، إلى أن مررنا بخيمتين أو ثلاث ممن ينحصر اهتمامهم في مصالح مواشيهم، فدعانا بعض سكان إحدى الخيم للجلوس فاستجبنا غير مبالين بما أبداه بعضهم الآخر من شعور عكسي، وبدأت كؤوس الشاي تدار علينا، وقبيل الغروب جاء مراهق يبدو أنه ابن مضيفينا يحمل أوراقا من ألف ليلة وليلة (طبعة المكتبة الشعبية لمن يذكرها) عثر عليها في الخلاء وقد ضربتها الأمطار حتى تلاصقت أوراقها ولوحتها الشمس حتى اصفرت أعاليها، فانزعجتْ من حسِبْتُها أمَّهُ غاية الانزعاج ودعت عليه وأنَّبته على الإتيان بـ”هذا المصحف ال ما ايگد إيمسُّ ماه ولد متالي گاعد افسيوه من الْمَ” على حد قولها، زاعمة أنه سوف “يرفد البن” حيوانهم.
كان من الواضح أن المرأة مكروبة من الأوراق، ونهضتْ إليها فحملتها على عصا حتى أبعدتها أمتارا كأنما تخشى انفجارها، وكان أحدنا يحثها من خلال التظاهر بتصويب رأيها، بينما استمتع الباقون منا دون تعليق. وختمتْ بالقول: “ألا كان ذُ العيل يطفگوه عنا إيجازيهم بالخير” وحين وافقنا بدأت ترتاح لنا وتضحك من دعاباتنا مع أن قدومنا لم يسررها في البداية.