من رحلات الحج.. رحلة محمد فال ولد الحسن – الحلقة الأولى
قراءة سريعة في كتاب “على خطى قوافل الحجيج : من أفلّه في موريتانيا إلى مكة المكرّمة 1370-1372 هجرية..
رحلة محمد فال ولد الحسن ولد فالْ البوصادي
تحرير يحفظُ ولد محمد محمود
الحلقة الثالثة – في موكب الزعيم أحمدُو بن حرمه من اغليگْ أهل بيَّه إلى مدينة تمبدغه.
التاريخ: الأربعاء 5 ابريل 2023م..
يرسم لنا صاحبُ الرحلة كيف يبدأ البرنامج اليومي في المحظرة وكيف اختل ذلك البرنامج فجأةً بمجيء وفد الزعيم أحمدو ولد حرمه (صاحب الصورة المرفقة) رحم الله الجميع .” وتبدأ أيام الطلاب في محظرة اهل بيه بكتابة دروسهم الصباحية في الألواح، ثم المجيء إلى الشيخ في وقت الضحى للاستماع للشروح التي يقدمها، وبينما الطلاب غارقون في شأنهم، إذ قطع سكونَ يومهم هديرُ محركِ سيارة، ولأن السيارات في تلك الأيام كانت نادرة، فقد كان صوتها وقدومها يشد الانتباه.توقفت السيارة أمام خيمة الشيخ المحفوظ، ليتبين أنها تحمل وفداً يضم كلا من الزعيم أحمدُو ولد حرمه ولد ببانه، والاخوين أعلِ محمود وأحمدْ سليليْ إمارة أهل لمحيميد،.نزل الوفد الزائر، وانطلقت مراسيم الضيافة، وبدأ رجال الحي يتوافدون، ومعهم بعضُ طلابِ المحظرة إلى مكان الضيافة، وكنت ضمن من حضروا إلى عين المكان، للاستماع لما يدورُ بين الشيخ المحفوظ وضيوفه”.
وينقل لنا صاحب الرحلة فقرات بارزة من الخطاب السياسي للزعيم أحمدو بن حرمه في الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية فيقول:”وقد كان معظم كلام الوفد، وخصوصا الزعيم أحمدو ولد حرمه، منصبا حول موضوع الانتخابات التي كان الإعداد لها يجري،ويتنافس فيها هو نفسه مرشحا عن حزب الوفاق، مع مرشح آخر هو سيد المختار ولد يحيى انجاي مرشح حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني، كما تناول ضمن حديثه أيضا بعض الانتقادات التي كان يوجهها للفرنسيين، ويتهمهم فيها بالانحياز إلى فئات من المجتمع الموريتاني على حساب أخرى، وينتقد نظام العُشْرِ ويصفه بالنظام الجائر ويسمي أطرافا بعينها من المجتمع مثل الاسر النافذة، ويتهم الفرنسيين بمحاباتها وتخفيف ضريبة العُشْرِ عنها، في حين يتم التشدد في جمع العشر حينما يتعلق الأمر بالطبقات الفقيرة”.
ويبدو أن رواد السياسة الوطنية آنذاك قد تنبهوا مبكرا إلى أهمية جهاز الراديو الذي هو من المستجدات الغريبة على الناس في تلك الحقبة الاستثنائية من التاريخ .وكما كان للترجمان في افْديركْ: المختار ولدْ داداه جهازه الإذاعي الفريد من نوعه في تلك المنطقة ، فقد كان للزعيم أحمدو بن حرمة جهازه الإذاعي الفريد في المنطقة كذلك.. وقد انتهز فرصة زيارته لحيّ أهل بيّه لِيُريَه للحاضرين و يذكر لهم بعض فوائده..يقول صاحب الرحلة في معرض حديثه عن خطاب الزعيم :”كما تناول أيضا حديثه بعض المستجدات الأخرى، ومن ضمنها المذياع، حيث أخرج من السيارة جهازا إذاعيا، وفتحه وبدأ يستمع إليه، و يشرح للحاضرين فوائده، وكنت أنا ضمن المستمعين”.
هذا وإن صاحبنا كانت له اهتمامات أكبر تشغل ذهنه عن الشأن السياسي المحلي والأجهزة الفنية الحديثة.فهو يفكر في طريقة يلحق بها بذلك المريد الشاذلي المجذوب الذي لقيه قبل أيام حاجا على قدميه ليتخذ منه رفيقا إلى الديار المقدسة.وهو يروي لنا كيف تحقق له ذلك فيقول:”وقد علمت من خلال الاحاديث التي دارت أمامي، أن الوفد سيتوجه بعد انتهاء مهمته مساءً إلى تمبدغه ، مما أعادني على دوامة التفكير في ضرورة تدارك فرصة السفر مع محمدْ ولد الجَوْدَه ، والتي أضعتُها قبل أيام حين تخلفت عنه (……) فقد قررت مرافقة هذا الوفد، حتى أتمكن من اللحاق به، وكنت اعلم من خلال القرائين والأخبار، انه لايزال في تمبدغه أو ضواحيها.استأذنت صاحب السيارة في موضوع الركوب معه فلم يمانعْ.وقد كانت هذه أول مرة أركبُ فيها السيارة، وثاني مرة أراها فيها.أما المرة الأولى فقد كانت قبل ذلك بأعوام، حينما كنت في العاشرة من العمر، وفي سنة تسمى محليا عام التشريگه، حيث مرت سيارة قرب مضارب حي الاهل، فخاف الناس منها، وهرعوا للاختباء تحت الأشجار، فهربتُ معهم، حتى تجاوزتنا وابتعد عنا صوتها حتى ما عدنا نسمعه، فعدنا إلى اماكننا، واليوم ها هيَ على مقربة مني وانا اتأهب لركوبها”.
ويصف لنا الفتى سيارة الزعيم من داخلها هذه المرة ويحدثنا بصورة خاطفة عن شعوره آنذاك فيقول :”وتتوفر سيارة أحمدو ولد حرمه على مقاعد في المقدمة وحوض خلفي لنقل الامتعة وهي من طراز لاندروفر. ركب عناصر الوفد في مقدمة السيارة، وأخذتُ مقعدي على حذر في مؤخرتها ومعي آخرون.وأدار السائق المفتاح، فزمجرتْ وأرسلتْ خلفها دخانا كثيفا، ثم تحركت وبدأت تسرع بشكل تدريجي، وما هي إلا لحظات، حتى كانت تسير بنا مسرعة تنهب الطريق الرملي الرابط بين اغليگ أهل بيه، ومدينة تنبدغه.واثناء الطريق كان أحمدو ورفاقه يتحدثون في أمور عامة، بينما كنت مشتت الانتباه، فمرة اتأمل السيارة وما يفعله السائق، وحركة يديه ، وفي احايين أخرى أتشبثُ بالمكان الذي أجلس فيه مخافة أن أسقطَ”!
ومن مشارف مدينة تمبدغة ، يصف لنا الفتى المحظري ذلك الاستقبال الرائع الذي خصصه سكان المدينة لذلك الموكب المَهيب الذي اشترك فيه من حيث لم يكن يتوقع مع زعيم سياسيّ و رجلين من سلالة الأمراء :”وتواصل الأمر على هذ الحال، حتى إذا اقتربنا من مدينة تمبدغه،استقبلتنا خيل عليها رجال، وبدأت تجري بمحاذاة السيارة وقد أحاطت بها، مما بدا وكأنه استقبال محضر مبرمج للترحيب بالزعيم أحمدو ورفاقه.وقد كان منظر تلك الخيل الجياد، وفرسانها المهرة وهم يحيطون بالسيارة وتلويح عناصر الوفد بأيديهم منظر يبعث على الدهشة والإعجاب، كما يترجم المكانة المحترمة التي يحظى بها الزعيم أَحمدُو ولد حرمه ولد ببانه في أوساط سكان الحوض، الذين يقدرونه في غالبهم الأعم، ويرون فيه مخلصا من ظلم وعنت المستعمر.وكان وصولنا إلى تمبدغه ليلة الحادي عشر من رمضان”.
قلتُ: وبتحديد تاريخ وصول الوفد إلى تمبدغة بأنه الحادي عشر من رمضان 1370 هجرية ، نتبيّن بالقرائن أن هنالك فرقا طفيفاً بين الرؤية المحلية لهلال شهر رمضان في سنة 1951م مع الرؤية المعتمدة في الأنترنت ولعلها فلكية . ذلك أن وصول الوفد إلى تمبدغه في التاريخ المذكور يعني أن مَقيلهم مع الشيخ المحفوظ بن بيّه كان يوم الخميس 10 رمضان 1370 هجرية الموافق 14 يونيو 1951م.وذلك لا يستقيم بدليل أن قدوم الوفد إلى الحيّ كان يوم دراسة كما جاء في الرحلة ،والخميس هو يوم العطلة المحظرية الرسمية.وعليه فإنني أرجح أن يكون مجيء الوفد كان يوم الجمعة الموالي الموافق 15 يونيو 1951م أي قبل يومين فقط من تاريخ الانتخابات البرلمانية الفرنسية المنظمة يوم الأحد 17 يونيو 1951م وفاز فيها سيد المختار ولد يحيى انچايْ على منافسيه المحليين ومنهم الزعيم أحمدو بن حرمة كما هو معلوم.
في الحلقة القادمة يلتحق الفتى برفيقه ويواصلان ذلك الطريق المثير على خُطى قوافل الحجيج من تمبدغه إلى لغوَيْرْگَه ومن هنالك إلى تومبكتو.
(يتواصل)
محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ
رحم الله السلف وبارك في الخلَف.
من صفحة الأستاذ/ محمدن ولدسيدي (بدنه)