
ظرافات وظرفاء (49) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
في أحد أرجاء هذا المنكب البرزخي الفسيح ربطتني صداقة وطيدة بقوم {منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} كنا متعددي الجذور الآدمية والظروف المكانية والزمانية، والأحوال المادية إلى حد التباين، وكان الخيط الناظم لجماعتنا هو الجانب المعرفي؛ فمنا علماء ومنا متعلمون ومنا دون ذلك ومنا غير ذلك. كان أغلب القوم مسنين أفاضل وكنت (وقتها طبعا) الشاب الوحيد في جمعهم الكريم (رحم الله من مضى وحفظ من بقي) وكنا نفيض في مجالات شتى على إيقاع الشاي المعد في “أبراد مشگر من تاسميمت” على جمر هادئ من كف مسن وقور في الغالب.
أحد جماعتنا كنت من أبغض الناس إليه دون أن يفسد ذلك لودي قضية؛ فقد كان من أحب الناس إلي! فلكل من الحب والبغض دواع وجيهة.
هو يبغضني لأني ربما قلت “كلاما غير مفهوم” من قبيل أن نفي النفي إثبات، وأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن الوصية إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت، وأن المبتدأ والخبر كالنعلين (يفتقر كل منهما للثاني).. ونحو هذا، وزاده أني أضحك – رغم أنفي- من كلامه، وإن زال هذا المأخذ – أو خف- مع الوقت كلما ازداد تعودي على أحاديثه “العلمية”. وكان ينقم جهرا على تلك الجماعة الكريمة “ردهم لأنفسهم” إلى صحبة الأطفال (يعنيني).
أما أنا فأحبه وأستظرفه لجهله المركب الذي جعله يهرف بما لا يعرف، وكنت أجد فيه سلوة عن الاغتراب ونأي الدار وشحط المزار. وكنت ربما شعرت باستغراب الجلساء انشغالي به عن أحاديث رفيعة ومطالعات في كتب قيمة.
كان الرجل مؤرخا ومحدثا وصوفيا وفقيها وأصوليا وأديبا وناقدا ولغويا ومنطقيا.. وغير ذلك، دون أن يكون شيئا من ذلك أو يقاربه! وكان ربما التقط كلمة أو جملة مما يجري في مذاكراتنا فجعلها الحجر الأساسي لحديث طويل عريض غريب.
من ذلك أن أحدنا استشهد مرة بقول ابن السبكي في جمع الجوامع: “وحكّمت المعتزلة العقل” فأوقف صاحبنا الحديث هنا قسرا واستأثر بمعظم الوقت في حديث مداره على هذه العبارة محرفة اللفظ والمعنى؛ فقد فهم أن المعتزلة الصوفية وأنها حكمت العقل (بالحسانية) أي أمسكته واحتكرته! واستمر يكرر “وحكَمت المعتزلة العقل” (بتخفيف الكاف) مبرهنا على رؤيته العجيبة!
ومرة دار الحديث عن الإضافة لأدنى سبب فسمع من أحدنا الشاهد النحوي المشهور:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة** سهيل أذاعت غزلها في الخرائد
فشرح لنا مفرداته بأن كوكب الخرقاء هو الرجل الضخم، وأن سهيلا هو “الرويجل الماهُ لاحگ ذاك” وأن “لاح بسحرة” أساء إليه، وأن معنى “أذاعت غزلها في الخرائد” أن كوكب الخرقاء انفعل على سهيل فقال له: “ابلا موجب تزلگ فيَّ يا سهيل! آن راجل اكبيـــــــر وانت بين أصباع. ذ شنهُ؟ أصل اتگادَيْنَ بعد!”.
وهكذا كان ينجح أحيانا – بتواطؤ من بعضنا معه- في جر أحاديثنا من مجالات لا يفهمها إلى ما يفهمه ويتحكم في مساره!
ولم تكن قراءته أحسن من فهمه؛ فمرة قرأ سطورا تتحدث عن بعض الذين رُموا بالزندقة في العهد العباسي، ففاه بكلام من أغرب ما سمعته! منه أبناي اللاحقين (أبان اللاحقي) والخير والشر إذا ما عُضَّا (عُدَّا) ونحو ذلك. ومن أطرف ما في قراءته أنه يثأر من الشعراء والرواة؛ فيقف بالتنوين على القوافي، ويمرغ جباه المفردات، ويدوس المجمع عليه من أحكام النحو والصرف، ويواصل غير عابئ.. وكأنه المقصود بقول دريد بن الصمة:
أَردى فوارس لم يكونوا نُهْزَةً ** ثم استمر كأنه لَم يفعل!
وكان من عادته أن يعْتَمَّ بخرقة قصيرة تبدو كالقلنسوة على رأسه وغالبا ما كان لونها مخالفا لمعهود ألوان العمائم. مرة قال له أحد الجماعة ممازحا إن بين عمامته شبها مع قلنسوة موبوتو سيسي سيكو رئيس زايير آنذاك (الكونغو الديمقراطية الآن) فضحك وقال: “إيطيرو.. گط شافني واظبطهَ أُعاد إحامرني”!
وكان ربما تجاوز الخطوط الحمراء ففاه ببعض الشطح فعلا النكير عليه فيضحك ويقول: “معناه عني لو گلت الكم ش هون (ويشير إلى صدره) گاع تتغشراو يَبَيِّي”!
.. إلى آخر غرائبه الكثيرة.
بعد فراق قارب عشر سنوات لقيته آخر مرة هنا بالعاصمة في زيارة للطبيب عبد الله بن أوفى رحمه الله (في أواخر أيام الأخير) فشعرت بحنين جامح إلى عهد تصرم ولا أمل في عودته ولا يلوح مؤشر لشبيه به. أما الرجل فلم يكن قد تغير بعدي شكلا ولا مضمونا، ولا أدري ما فعل الله به بعد ذلك.