ثقافة

ظرافات وظرفاء (47) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

يقول الأعشى:
.. وأخرى تداويت منها بها!
ويقول أبو نواس:
.. وداوني بالتي كانت هي الداء!
يحكى أن مجلسا بلديا فرنسيا رفع دعوى على صحيفة بسبب نشرها ما معناه أن نصف أعضائه حمير فحكمت المحكمة على الصحيفة أن تفند ما نشرته فما كان منها إلا أن نشرت أن نصف أعضاء المجلس البلدي المذكور ليسوا حميرا!
تذكرت هذين الشطرين وهذه النكتة في أواخر العقد الميلادي المنصرم حين أوفدت مؤسسة إعلامية كنت أعمل بها صحفيا شابا لإجراء تحقيق ميداني عن الإهمال والفوضى السائدين في إحدى المصالح المعنية بالعقارات فعاد بمادة التحقيق مصحوبة بصور معبرة تضمنت المراجعين يبحثون بأنفسهم في أرشيف المصلحة المعنية دون حسيب ولا رقيب في منظر يذكر بتعلق المعز في الشجر أثناء الرعي!
نشر التحقيق مدعوما بالصور، وموقعا باسم من أنجزه كالعادة، وكان مدلوله واضحا لا يترك عناء في إثبات محتواه، وفي المساء فوجئت بشاب يلج مقر المؤسسة سائلا عن الشاب الذي أعد التحقيق، فأجبته بأنه أنجز عمله وانصرف، فقد كان العمل المسائي مقتصرا على المخرج ونحوه من الأشخاص المحوريين في المؤسسة، بينما يكون المحررون قد أدوا الأعمال المنوطة بهم وسلموها إلى الإدارة أو سكرتاريا التحرير ولم يبق داع لمكثهم في مكان العمل.
كان الزائر غضبان من ظهور صورته في التحقيق الصحفي وهو يفتش في رفوف الأرشيف، ويرى أنه اعتداء عليه ويحتج بأدلة غير موفقة منها أن المدير الناشر وحده هو الذي يخوله القانون العمل الصحفي في المؤسسة، ومنها أن زميلنا لم يستشره قبل التقاط صورته.. إلخ، أوضحت له أن الترخيص يصدر باسم شخص واحد ولكن لهذا الشخص الحق في الاستعانة بفرد أو فريق حسب حاجة العمل، وأن المدار على البطاقة المهنية بصرف النظر عن رتبة حاملها، وأن القانون يحمي الصحفي أثناء ممارسة عمله، وحتى لو ادعى شخص ما العمل في مؤسسة ما فمهمة التبرؤ منه تعني إدارة تلك المؤسسة لا أنا ولا هو. وبينت له أن التصوير في الأماكن العامة (ومنها الشوارع والمتاجر والمكاتب العمومية) حق متاح لا يحتاج إذنا، وأن خصوصية الشخص إنما هي في بيته فإذا خرج منه لم تخرج معه.
كان الشاب ثائرا ولم يَعْدُ كلامي معه “الفاتحة في أذن حمار” كما يقال؛ بل أوهمه أني من يبحث عنه فتنحى إلى حيث لا أراه ونادى: “سيدي محمد” (باسم الشاب) فظننت هذا عاد على غير عادته وخرجت إليه مسرعا خشية أن يصيبه بسوء على حين غفلة منه، فلم أجد غير الزائر المهتاج؛ بينما تأكد ظنه هو وأعجب بعبقريته! واستمر يرعد ويبرق موجها كلامه إليَّ بشكل يمنع التركيز، إلى أن دخل المدير المسؤول وهو أستاذ فلسفة هادئ الطبع طويل النفس، فدعاه للجلوس وقدم إليه كأس ماء معدني وناقشه والناظر يحسبه نعسان من فرط هدوئه حتى اطمأن إليه فاقترح عليه إعادة نشر صورته (التي أعضبه نشرها) مع خبر يفيد أنه زارنا وصرح بأن لا علاقة له بأرشيف المصلحة المذكورة، فقبل وانصرف شاكرا ونشرت الصورة والخبر وفق الاتفاق؛ وهكذا أعيد نشر ما أزعجه مصحوبا بتصريح له تكذبه الصورة!!
بعد ذلك تبين لي أن الشاب “تبتاب” متعدد الكفاءات؛ فقد رأيته في عدة أماكن ومهن متباينة وهو لا يعرفني! من ذلك أني بعد فترة جيء بي إلى المستشفى فوجدته هناك جنبا إلى جنب مع الممرضين، ولما اقترب مني لتثبيت الحقنة الوريدية في يدي أومأت إليه أن يتنحى، فقال مداعبا: هل بك حساسية من الأطباء؟! قلت: كلا؛ بل بي حساسية من المتطببين بغير علم.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى