ثقافة

قرية بلا سقوف

في نواكشوط وأنت قادم من مدائن الريح لاشيء يغريك بأحضانه ليمسح عن روحك البؤس والتوتر.

طلب مني أحد الإخوة الذهاب معه إلى أحد المقاهي، دخلنا “سافانا كافيه” كانت غيوم الدخان تملأ المكان وصخب أنصار نادي “البارصا” يرتفع، يبدو أنها ليلة من ليالي الدربي أو الكلاسيكو.

جلسنا على المقاعد أمام المقهى، كنت انظر لتلك العمارة الشاقولية هل هي من تصيم مهندس معماري أم من إبداعات المالك الرشيد.

الرياح الباردة أمام المقهى ودخول وقت صلاة المغرب جعلانا ندخل إلى باحة المقهى للوضوء والصلاة كان العامل الغيني يصلي على سجادة فناولنا إياها مشكورا.

بدت ملامح ليل المقهى تتشكل، بجانبنا فتيان لايبدو عليهما أثر السفر و لايعرفهما منا أحد، فتاتان خلاسيتان دخلتا وخرجتا، طاولة معدة يبدو أنها محجوزة، ما لبثت أن احتلها رجل غربي مع من تبدو أنها زوجته، شقراء غير مسرفة في اللباس وجلس بجانبهما شابان أسودان ورجل أبيض خمسيني يعلوه بعض الوقار.

وبدا أن الرجل الغربي أحد أباطرة تازيازت جاء في زيارة صحبة زوجه وأن الشابين والخمسيني لهما معه بعض البزنس.

طلبت قهوة وطلب صاحبي عصير برتقال، تهادى إلينا المساء حالما.
أعجبني جو المقهى وانتبهت إلى أننا لا نعرف المقاهي، نحن بدو رحل بصحراء لا تنبت إلا أشجار جهنم.
مقاهينا غمامة كلما تبوأ منها جواب الآفاق ظلا للمقيل اضمحلت، المقاهي ترف حضاري لا يعرفه الظاعنون.

يقول الشاعر والاديب بول شاوول إن “المقاهي رئة المدينة”.
المقاهي ذاكرة وفضاء للتأمل والبوح والسرد والإبداع ومكان لجس نبض المدينة ، وفيها يلتقي الفيلسوف والكاتب والفنان والمخبر والمستحفي باط.

لست من رواد المقاهي لكن أذكر أنني في الماضي سحرني مقهى (باليما) في مدينة الرباط وكان الأنف يعشق قبل العين، لم أكن من رواد المقهى بل كنت عابر طريق أدمن رائحة البن المنبعثة من المقهى فعشقتُ الرائحة، فكنت كما قال محمود درويش:
“رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين. ومازالت تعود.
القهوة مكان، القهوة مسام تُسرِّب الداخل إلى الخارج، وانفصالٌ يُوَحِّد ما لا يتوحّدُ إلّا فيها هي رائحة القهوة.
هي ضدُّ الفطام. ثدي يُرضع الرجال بعيدًا.
صياحٌ مولود من مذاق مُرّ، حليب الرجولة، والقهوة جغرافيا.”

يقع مقهى باليما على شارع محمد الخامس أمام البرلمان، يحمل اسم الفندق المطل عليه، ويحمل آثار شخصيات من تاريخ المغرب الأدبي والفني ومن أهم زواره تشي غيفارا، لكن نصيبي منه كان رائحة البن التى طالما سحرتني بعبقها رائحا أوغاديا.

في تونس أذكر أنني ذهبت من قلب العاصمة إلى باب ابحر بالمدينة العتيقة، ظلت المقاهي مقهى في رجله مقهى، حتى ظننت أن الناس تسكن المقاهي. بل بدت لي المدينة بكاملها وكأنها مقهى كبير.‏

شغفتني مقاهي باريس حين تحدث عبد الرحمن منيف عن صديقه عروة الزمان الباهي، يقول منيف:
للباهي علاقات واسعة ومتنوعة، ولكل علاقة مقاهيها، نظرا لاختلاف الأمزجة واختلاف الإقامة، كان يشاهد في مقاهٍ لايعرفها أولا يرتادها العرب، كما أن مقاهي الأصدقاء المغاربة تختلف عن مقاهي أصدقاء المشرق، نظرأ للعادة والمعرفة السابقة، ولذلك يعتبر الباهي أحد الأشخاص القلائل الذين يجمعون الوحدة والتنوع في آن واحد، خاصة وأن علاقاته الفرنسية كانت غنية ومختارة، وكانت في إطار خلق التفاعل بين حضارتين ولغتين وكانت غالبا تتم في المقاهي.”

من المقاهي التي قرأت عنها وتمنيت زيارتها مقهى الحافة في طنجة، فمقهى الحافة ليس مقهى عاديا، فهو يقوم على هضبة عالية تطل على مضيق جبل طارق، هذا المضيق المتفرد في خصوصيته التاريخية والجغرافية، والذي يحمل في أعماقه الكثير من الأساطير التي تختلط بالواقع، فينتج كل ذلك سحرا مكانيا من النادر أن يوجد له مثيل في أماكن أخرى في العالم، بمقهى الحافة احتسى ونستون تشرشل ذات يوم فنجان شاي وهو يلقي نظرة على مضيق جبل طارق.
وزار المقهى كتاب وأدباء وموسيقيون منهم محمد شكري، الطاهر بن جلون، وبوول بولز، وتينسي ويليامز، وصامويل بكيت، وابنة الروائي الشهير إرنست هيمنغواي، وفريديريكو غارسيا لوركا، و ألبيرتو مورافيا، وفي ذلك المقهي البسيط العريق كُتب الكثير من روائع الأدب العالمي.

كما أني تمنيت الجلوس في مقاهي مدينة أصيلة، المدينة المغربية الصغيرة الغافية على ساحل المحيط الأطلسي، أجلس في مقهى الزريرق، أو مقهى الصيادين مستمتعا بفن الملحون والعزف على الآلات التقليدية وحديث الأدب والشاي الفواح بعبق النعناع.

تمنيت أن أزور مقاهي شارع الحمراء في بيروت مثل الويمبي والهورس شو والكافي دو باري، يختصر شارع الحمراء لبنان بتلاوينه وتعدد أوجهه وثقافته، دور السينما والمكتبات ودور النشر ومحلات الموضة والأزياء والجامعات.
وارتبطت مقاهي شارع الحمراء بأسماء معروفة في عالم الثقافة والأدب والشعر من أمثال نزار قباني وأنسي الحاج وأدونيس ومحمد الماغوط وسواهم.

وكم تمنيت أن أزور مقاهي بغداد المنتشرة على طول شارع الرشيد ابتداء من ساحة الميدان إلى الشورجة وسط بغداد، والمقاهي على شارع المتنبي، ومقاهي الكرادة و مقاهي الكاظمية، ومن حيث لقي ذات يوم نزار قباني حبيبته بلقيس على ضفاف الأعظمية، والمقاهي على الجانب الغربي لنهر دجلة بالكرخ:
أستودع الله في بغداد لي قمرا :: بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني :: صفو الحياة وأني لاأودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى :: وأدمعي مستهلات وأدمعه

في قراءاتي طالما أغراني نجيب محفوظ بمقاهي القاهرة، فله عدة روايات حملت أسماء مقاه أحب الجلوس فيها مثل قشتمر والكرنك، ومقهى علي بابا الذي يطل على ميدان التحرير، والذي اعتاد أن يرتاده في الصباح الباكر ويجلس في طابقه العلوي متأملا الميدان الفسيح من النافذة وهو يرتشف قهوته ويطالع صحف الصباح.

وحدثنا محفوظ عن مقاه عديدة مثل الفيشاوي، وكازينو الأوبرا و ريش وكازينو قصر النيل، أما في الإسكندرية فكانت جلسته الأدبية في مقهى بترو أو تريانون، حيث تتحول الجلسة إلى ندوة ثقافية وغالبا ما تضم أصدقاءه “الحرافيش”.

مقاهي الشرق القديمة كانت فضاء للكثير من التسليات مثل الحكواتي والأراكوز ولعب الورق و الدومينو وتدخين النرجيلة وسماع الموسيقى، وطالما شحذ الحكواتي الأخيلة في المقاهي وهو يسرد تغريبة بني هلال وحرب البسوس وداحس والغبراء وسيف بن ذي يزن وعنتر وعبلة.
حتى إن مسرحية سعد الله ونوس “رأس المملوك جابر” انبثقت فكرتها من حكواتي المقاهي فهي تستند في بنائها على حكاية يرويها الحكواتي في أحد المقاهي الدمشقية.

كما شكلت المقاهي فضاء لصناعة الثورة والوعي، وحركات التجديد في الأدب والفن.

انتبهت وقد أوغل المقهى في الليل، انفض السامر وعاد زميلي الذي ذهب لإيصال زميل آخر.

لم تعرف انواكشوط المقاهي كفضاء للتنوع الثقافي والسمر الجميل، وأول مقهى عرفته كان مقهى تونس البائس الذي ارتاده الملحدون من أول يوم.

طويت الدجى متذكرا مسلسلا أردنيا قديما كان يبثه التلفزيون الوطني عنوانه “قرية بلاسقوف”.

كامل الود

من صفحة Sidi Mohamed (أكس ولد إكس اكرك سابقا)


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى