ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(21) / د. محمدو احظانا

أم الروايات
رواية التجربة

قال الراوي:
حاجيتكم ما جئتكم:
“أطول مني وأطول منك، وأطول من حب “التناقه”، وتمد يديك إلى رجليك، وتحونق بك الحوناقة”؟
فأجابه أحد المتحلقين بعد إجابات خاطئة ممن حوله:
-هي الموت.
-صحيح.
سأقص عليكم اليوم قصة الضيف الشجاع والتجربة.

الفصل الأول

قيل لكم ما قيل لكم:
إن رجلا كان يبحث عن ناقة ضالة على جمله النجيب، فنزل على حي لا يعرفه، فذكروا له أن ضالته وردت بئرهم قبل يومين وستعود وتردها بعد ثلاثة أيام، لأن الدواب تغب عن الشرب خمسة أيام في هذه النوبة.
فأقام الضيف منتظرا، كي يصادف ضالته، وهي ناقة من أفضل إبله وأعتقها، وعليها ميسمه.

الفصل الثاني:

بينما كان الرجل مسترخيا بعد العصر يتحدث مع مضيفه إذ جاء رسول فبلغهما أن رجلا كان مريضا مات في الطرف القصي من الحي.
فقال المضيف للرسول:
-قل لهم إننا سننقله للدفن في مقبرتنا غدا.. بجانب أمه.
فسأله الضيف:
-وما المانع من دفنكم له الآن؟
-نحن لاندفن بعد العصر.
قال الضيف مستغربا: ولم؟
فأجابه الرجل متلعثما:
-كذا وجدنا آباءنا يفعلون.
-هذا لايجوز. هيا ندفن الميت قبل أن يتغير حاله.
قال المضيف للضيف بتردد أكثر:
-لن تقبل الجماعة ذلك. لكن إن رأيت هذا هو الشرع فعلنا.
-أرى أنه هو الشرع بالتأكيد.
-إذن هيا لنلحق بالرجال هناك.
في الطريق كان المضيف يفكر بعمق فسأله الضيف:
-بماذا تفكر؟
-أفكر في أمرين معضلين، محيرين حقيقة:
كون العادة كالشرع وهذه عادتنا، فهي شرعنا.
وكيف نحمل الميت إلى المدفن البعيد وملكنا بقر وحمير، وثيراننا وحمرنا في غيابات المرعى الآن؟
فأجابه الضيف بكل ثقة:
-أما كون العادة كالشرع فهذا ليس على إطلاقه، بل حكم مجزوء، إذ هي كالشرع ما لم تخالفه.
-وأما ماتحملون عليه الميت فهذا جملي النجيب مقيد قريبا وسأجلبه حالا.
إذن أجلبه لنا. وأنا سأقنع الرجال. بارك الله في علمك بشرع الله، وفي جملك.

الفصل الثالث

تفرق الرجلان فعاد الضيف إلى رحله وأخذ منه خطام جمله ليجلبه، وذهب المضيف ليذلل صعوبة التخلي عن العادة مع قومه.

****
كان الرجال يناقشون وأيديهم تطوح في الهواء امتناع وقبولا، حتى أصبح الضيف بحيث يسمعهم، انطفأ حديثهم الساخن، وأقبلوا على ميتهم يجهزونه ويكفنونه.

الفصل الرابع:

شد الرجال الجنازة إلى رحلوالجمل وعادلوها بوزنها من التراب في ظرف جلدي، وانطلقوا يسابقون الليل إلى مقبرتهم وأغلبهم يرتجف خوفا من خرق عادتهم الموروثة.

****
لما أنهوا مراسم الدفن طلب رجال الحي -كما اتفقوا من قبل- من الضيف أن يلقن ميتهم مادام عارفا بشرع الله. وأن يخلوا بينه وبين التجربة، دون علمه، فاستجاب لذلك بكل أريحية.

****
خرج الرجال متدافعين قبيل غروب الشمس:
“ويلك أيها الوراني”، خوفا من التجربة،
بينما كان الضيف خلي البال، يلقن الميت شهادة أن لا إلا الله وأن محمد رسول الله.
فلما انتهى وأراد أن يخرج من المقبرة في أثر الرجال تمكنت منه قتمة وأخذت تسحبه بقوة إلى المقبرة لتقضي عليه.
فسألها دون خوف وهو يجالدها:
-من أنت أيتها القتمة؟ وماذا ترين مني؟
فقالت له بصوت مبحوح مريع:
-أنا التجربة. وأريد أن آخذك معي.
فقال لها الضيف برباطة جأش:
-إذا كنت أنت هي التجربة فحرريني من قبضتك واذهبي إلى من جربك.
فقالت له:
صدقت أيها الضيف الشجاع.
وتركته لتنطلق زوبعة سريعة إلى آخر الرجال الذين جربوها واستحوذت عليه وسحبته إلى المقبرة.

****
أخذ الرجل الشجاع خطام جمله المربوط بغصن شجرة قريبة، واستقل على رحله، والتحق برجال الحي المذعورين من التجربة التي كانت ولا تزال تأخذ آخر من جربها من رجال الحي إذا دفنوا في مقبرتهم بعد العصر.

“وربطت أنا نعلي على رجلي، ورجعت عنهم سالما إلى أهلي، أحدث برواية التجربة دائرا عن دائر.”

م. أحظانا


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى