
ابن القيم والشاطبي: نقاط الالتقاء وأوجه الاختلاف/ سيد أحمد سيدي الخليل
منذ قرأتُ لهذين العالمين وأنا ألاحظ التقارب المنهجي والموسوعي بينهما رغم تباعدهما الجغرافي والمذهبي، فابن القيم مشرقي شامي، والشاطبي مغربي أندلسي، وابن القيم حنبلي “سلفي” والشاطبي مالكي أشعريّ.
ومع ذلك لا أكاد أقرأ لهما إلا خيل إلي أن أحدهما يأخذ من الآخر نفس الفكرة وإن كان التعبير اللفظي عندهما يختلف؛ وتلك أولى مظاهر الالتقاء وفي نفس الوقت أولى أوجه الاختلاف ـ وإن كانت شكلية ـ فلنؤجلها إلى الدخول في الموضوع.
توفي ابن القيم سنة 751 للهجرة، وتوفي الشاطبي سنة 790 للهجرة؛ وأربعون سنة مدة كافية لأن يصل تراث ابن القيم وشيخه ابن تيمية إلى ضفاف غرناطة الجميلة حيث يقيم الشاطبي الذي يبدو أنه يشابه إمامه إمام دار الهجرة مالك بن أنس في عدم الرحلة في طلب العلم والاقتصار على أخذه من بلده وحيث يقيم.
غير أننا لا نجد ذكرا لابن القيم ولا لشيخه ابن تيمية في كتب الشاطبي، وإن كان بعض الباحثين افترض أن يكون الشاطبي استفاد من ابن تيمية غير أني لم أر من تكلم عن استفادته من ابن القيم.
وعلى كل حال فكل ما نقوله من افتراض تأثر الشاطبي بابن القيم فهو مقول بالقوة عن شيخه ابن تيمية الذي يعتبر ابن القيم امتدادا له ونسخة طبق الأصل منه.
مع أني أميل إلى الباحثين الذين لا يرون أن الشاطبي تأثر بابن تيمية عن طريق قراءة له، بل أرجح أن يكون ما وقع من ذلك توارد خواطر ووقع للحافر على الحافر ليس إلا.
بعد هذه المقدمة التأطيرية ألج إلى الموضوع مرتبا له في محورين:
أولا نقاط الالتقاء.
وقد اخترت التعبير بلفظ “الالتقاء” عن لفظ “الاتفاق” للإشارة إلى أن ما وقع من ذلك كان تلاقيا في سوح العلم ووهج المنهج وليس اتفافا يتضمن تنسيقا أو تقليدا أو اتباعا.
وبشيء من الاختصار يمكن أن نجمل نقاط التلاقي عند هذين العالمين فيما يلي:
1ـ الموسوعية العلمية عند تناول الموضوعات.
فعند تناولهما للمسائل العلمية ينثران من لآلئ العلم شيئا كثيرا قد لا يلتزمان فيه بوحدة الموضوع فيستطردان أصنافا من العلوم في موضوع واحد، وإن كان أسلوب ابن القيم أحلى وأكثر ميلا للوعظ فإن أسلوب الشاطبي أعمق وأكثر ميلا للاكتناز.
2ـ تلاقيهما في أهمية المقاصد والتعويل عليها.
مما هو بارز في تلاقي الرجلين: أهمية المقاصد عندهما والتعويل عليها في الإفتاء وعند تحرير المسائل العلمية، فإذا كانت المقاصد لا تفارق الشاطبي لا في الموافقات ولا في الاعتصام ولا في فتاويه، فإن ابن القيم يصحبها عند “إعلام الموقعين عن رب العالمين” منبها لهم على أهميتها، وعند “إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان” ينبه إلى أن من مصايد الشيطان إغفال المقاصد، ولا يفارقها حين يكتب عن “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” بل إنه في هذا الكتاب يلزمها حذو النعل بالنعل، وبقية كتبه الكثيرة لا تختلف عن هذا.
3ـ محاربة الحيل والرد على أصحابها
وهذه النقطة وإن كانت امتدادا لإعمال المقاصد ـ لأن إعمال الحيل يناقض إعمال المقاصد ـ غير أن الرجلين أظهرا من محاربتها والرد على مجيزها ما يجعلها نقطة بارزة في تلاقيهما منهجيا وعلميا في شأنها.
4ـ محاربة البدع والرد على المبتدعة
محاربة البدعة منهج قويم في فكرالشاطبي تنظيرا وممارسة، بل إنه لهذه المحاربة خصص كتابه العظيم: “الاعتصام” ولم أر “عبقريا يفري فريه” في هذا المجال، ولا شك أن ابن القيم وقبله شيحه شيخ الإسلام ابن تيمية أبليا بلاء حسنا في هذه المجال، وهنا أؤكد أنه إن كانت مادتهما ـ ابن تيمية وابن القيم ـ في هذا المجال أغزر، فإن تناول الشاطبي أعمق وأخصر.
5ـ حشد الأدلة في الموضوع الواحد.
مما يتلاقى ابن القيم والشاطبي فيه: حشد الأدلة قويها وضعيفها قريبها وبعيدها في موضوع واحد بغية إقناع القارئ ـ حتى لا أقول إرهابه ـ أو الرد على الخصم فتجدهما يكثران من الاستدلال بالقرآن والسنة سواء دلا على الموضوع مباشرة أو على وجه العموم أو بشكل ما، ثم يشفعان ذلك بالاستدلال بغيرهما من الأدلة التبعية في نفس الموضوع، وإذا كان الشاطبي قد بين لنا قصده في ذلك وهو تحصيل القطع في المسائل العلمية بذلك الحشد الذي يجمع الإنسي والوحشي والبري والبحري وهو مسلك وجيه وجميل، فإن ابن القيم لم يبن لنا قصده من وراء ذلك على الأقل فيما اطلعت عليه.
6ـ قلة الشيوخ.
من مظاهر التلاقي بينهما قلة شيوخهما، فالشاطبي شيوخه قد لا يتجاوزن أصابع اليد، وابن القيم يكاد يكون لا شيخ له إلا شيخ الإسلام ابن تيمية.
7ـ بعض التفاصيل.
التلاقي بين ابن القيم والشاطبي لا يقتصرعلى الخطوط العريضة ـ بالتعبير المعاصر ـ أو أمهات المسائل ـ بالتعبير الأصيل ـ ولكنه واقع أيضا في التفاصيل المنهجية والعلمية، ولولا مخافة أن يطول المقال لذكرت نماذج من ذلك، ومع ذلك أذكرأنموذجا واحدا وليقس ما لم يقل.
ـ يوصي ابن القيم المفتي أو العالم أو الباحث بأن يستدل ثم يعتقد لا أن يعتقد ثم يستدل، ويتلاقى الشاطبي معه في هذه الفكرة فيقول إن العالم يجب عليه “أن يأخذ الدليل مأخذ الافتقار لا مأخذ الاستظهار” فهذه نفس الفكرة ولكنها بتعبير أكثر أناقة وإبهارا!
وقد سبق أن شرحت هذه العبارة في بعض كتاباتي وشرحتها البارحة في التلفزيون في كرسي النوازل المعاصرة.
ثانيا أوجه الاختلاف
لا شك أن نقاط الالتقاء تلك لا تستطيع حجب أوجه الاختلاف بين ذينك العالمين الجليلين فكريا ومذهبيا، ولعل من أبرز أوجه الاختلاف:
1ـ الانتماء المدرسي فقها وفكرا.
اختلاف ابن القيم والشاطبي فقهيا وفكريا ـ وإن شئت قل عقديا بشي من التجوز ـ لا مراء فيه، فابن القيم حنبلي المذهب ـ أو تيميه ـ والشاطبي مالكي قح، وابن القيم حنبلي أو حديثي أو “سلفي” في متشابه آيات وأحاديث الصفات، ويستهجن ـ حتى لا أقول يكفرـ أطرحات الأشاعرة، والشاطبي أشعري بيئة ومذهبا.
2ـ مهاجمة بعض أصول المالكية.
مما يختلفان فيه أن ابن القيم يهاجم بعض أصول المالكية كعمل أهل المدينة وهي مهاجمة قد تصل إلى حد التجريح ـ بيد أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر أن أصول مالك وأوهل المدينة من أصح الأصول ـ بينما الشاطبي يشيد بأصول مالك وينافح عنها وعن مذهبه، ولا سيما عمل أهل المدينة الذي نافح عنه ونظر له.
3ـ الأسلوب في الرد على الخصوم.
مما يختلفان فيه أن ابن القيم قد يقسو على خصومه حين يرد عليهم ولا سيما الأحناف، والمالكية أحيانا، بينما الشاطبي يرد على خصومه ولكن بهدوء واتزان.
4ـ غزارة الإنتاج العلمي.
مما يختلفان فيه غزارة الإنتاج العلمي أقصد المؤلفات، فإذا كان ابن القيم ملأ الدنيا علما بكثرة المؤلفات وتنوعها، فإن الشاطبي لم يكثر من التأليف كما لم يكثر من الشيوخ، بل إن مؤلفاته قد لا تتجاوز عدد أنامل اليد ـ ولكنها انعاح ـ وقد يعود ذلك إلى اشتغاله بالتدريس أو “طول” عينه في التأليف.
والحقيقة أن الأسلوب الجزل المكتنز الذي يكتب به الشاطبي لا يمكن لصاحبه أن يطيل النفس.
5ـ الموقف من الظاهرية.
يبدو ابن القيم أكثر احتفاء بالظاهرية وشيخها الكبير الإمام ابن حزم، بينما يلاحظ فتور بين الإمام الشاطبي والظاهرية ولا سيما بلديه ابن حزم، حيث يَكثر العزو إلى ابن حزم ـ نسبيا ـ عند ابن القيم، بينما يندر عند الشاطبي.
تلك أهم نقاط الالتقاء والاختلاف بين هذين الإمامين الجليلين اللذين فرقت بينهما الجغرافيا وقارب بينهما المنهج العلمي، لا أدعي فيها الاستقراء التام؛ ولكنها خواطر خطرت فكتبت من محب لهما معا؛ معجب بهما معا؛ يدعي صحبة كتبهما معا.