من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (4) (حكايات الأسود) /م. محمدو احظانا
ابن الأمير والأسد أبو ذراع
قال لكم من قال لكم:
إن رجلا كبيرا وولده خرجا لجلب الذرة البيضاء لأسرتهما، ولديهما جمل يحملان عليه مزودين لإيعابها، مع زاد خفيف وسقاء صغير. وكان الولد يقرأ ما حفظ من القرآن على أبيه أثناء السفر.
في طريقهما إلى بيادر الحقول في الجنوب. مرا بمحلة عامرة بها أمير عظيم الشأن، فلما نزلا عليه أكرمهما، وبعد العشاء أمر بنار كبيرة فأوقدت، وأرسل أحد حراسه لفنان ماهر كبير سنا، تصدر المجلس وتحلقت حوله مجموعة من المراهقين الأشداء.
قال لهم:
– الليلة ليلة الفصال والذرع.
وأخذ يعزف على آلة “تيدنيت” ويسألهم: ماهذا الشور؟ فإن أجابه أحدهم إجابة خاطئة ذرع له أحد الحراس الطوال ذراعا من حيث هو، فيتأخر المراهق ويضحك المجلس ويزداد خجل المراهق. وكان لكل واحد من الفتيان اليافعين قرن شعر على أم رأسه وبقية شعره حليقة.
تأخر الفتيان حتى لم يعد بإمكان جماعة الأمير من المتحلقين على النار أن يروا أغلبهم.
لكن كان من بين المراهقين يافع لم يذرع له بل بقي حيث هو، يجيب على كل سؤال طرحه الفنان في معزوفاته، فكان الفوز من نصيبه، ولذا أهداه الأمير خنجرا مقبضه من الأبنوس المطعم بالفضة. وأقبل عليه المراهقون يتصايحون ويرفعونه، وأقبلت النساء تزغردن وتقرعن طبلا معلقا بين شجرتين فتتزلزل الأرض من رزيمه، وكان الفتى يرفع خنجره زهوا.
****
لم يرق المشهد للضيف فسأل الأمير مستنكرا:
-ماهذا العبث مع ما يشاع عنك من عدالة وحماية للأرض وللمسلمين؟
فأجابه الأمير بلطف:
– هذا ليس عبثا، بل هو في صلب تمريننا للشباب، حيث يعزف لهم الفنانون يوم الكريهة ما يجعلهم يتحمسون ويقاتلون بشجاعة دفاعا عن الإمارة.
قال الضيف:
– ولكن السماع حرام.
فرد عليه الأمير مبتسما ابتسامة سموحة:
لم يبحه لنا إلا أنتم. قال لنا شيوخ منكم يوردون ويصدرون ويلجأ إليهم الكل، يستفتيهم في أحكام شرعه، إن السماع ليس محرما بذاته، بل بما يترتب عليه من ارتكاب المحرمات.
فإذا لم يترتب عليه محرم فهو مباح. وأنت لم تر محرما.
أما إذا ترتبت على السماع مصلحة مثل تربية فرساننا على الشجاعة و حماية الحمى، والدفاع عن العزل واستتباب الأمن بينهم، وحماية أموالهم من النهبة واللصوص حتى يتعلموا ويعلموا؛ فإنه يدخل في باب الواجب. لأن مالايتم الواجب إلا به فهو واجب. فالمسألة مسألة خلاف بين العلماء.
انكمش الضيف، وقد أحرجه جواب الأمير وفاجأه، فصار يردد:
– كذبوا عليك.. كذبوا عليك.
فقال الأمير وهو يضحك:
– سنرى غدا.
فرد الضيف:
– علماؤك لا يفتونك فتوى صحيحة لأنهم يخافونك. أنصحك لوجه الله أن تبعد هؤلاء الأطفال وترسلهم إلى محاضر العلم لتنجو من حقهم عليك يوم القيامة.
قطع الأمير الحديث مع الضيف وأمر أحد خدمه أن يذهب به إلى خيمة مجاورة هو وابنه ويؤويه إلى فراشه حتى الصباح.
****
لم تكد نجمة السحر تتسور السماء حتى استيقظ الضيف وذهب إلى شجرة المسجد وأذن أذانا جهوريا رددته الوهاد والتلال.
وما كاد يصلي الصبح حتى رمى المتاع على جمله وشده على عجل، وذهب في طريقه إلى حيث بيادر الذرة، دون أن يودع الأمير وهو يسأل الله أن لاتسقط عليه كسف من السماء أوتخسف به أرض المحلة أو يحل به غضب من الله.
ارتفعت الشمس فوصل الضيف إلى غابة قتاد تدلت صمغا عظيما، فأناخ الجمل وأخذ يجني الصمغ ويملأ منه مزودي الحبوب.
كان يحدث نفسه:
– لا جعل الله هذا الرزق استدراجا. على كل حال “الحاضرة بصيرة”، لقد أعطاني الله ما أقايضه بالذرة، فله الحمد والشكر.
****
بدأ الظرف الثاني يمتلئ صمغا، وفجاءة التفت الرجل فإذا أسد أبيض الذراع قد أقعى قرب الجمل والشرر الأصفر يتطاير من عينيه.
أما ابنه فقد تسمر على جذع القتادة التي كان ينتزع منها الصمغ وهو يهذي دون أن يحس بأشواكها المخلبية.
وأما الرجل فإن إحدى يديه تيبست في داخل الظرف المفتوح والأخرى تصلبت على فمه.
وأما الجمل فقد تدلت أذناه وجحظت عيناه وذرفتا دموعا غزيرة، وصار رغاؤه خافتا، واستبدت به رعشة الخوف.
****
انقضت على الثلاثة سنة بحساب النفوس الواجفة، وكأنهم تماثيل تجمد كل واحد منها على الحالة التي أدركه الفزع الأكبر فيها.
****
كأزيز الريح العاصفة في أغصان الشجر، ودوي الزمن في الصحراء الموحشة، مرت فرس رقطاء قرب التماثيل يعلوا صهوتها كالخيال، فانطلق الأسد في أثرها وكأنه لم يكن ولم تكن الفرس لسرعتهما.
بلغت الهواجس بالرجل أن أيقن أنه كان في حلم، سمعوا صوت طلق ناري، ولولا أن الأسد عاد إلى مربضه مقابل الجمل، والدم يقطر من مكان أذنه المقطوعة لما أدرك الرجل أنه في واقع.
استعاد الثلاثة تجمدهم بعد أن تحركوا قليلا.
أقبلت الفرس العاصفة كارة، ومرت سحابة جهام وذابت في البعد فذاب الأسد في أثرها.
سمع الرجل طلقا ناريا ثانيا، بعد أن تحرك و ربط المزود بوكائه، و حين استبطأ الأسد إذا به عاد إلى حيث كان، وقد قطعت أذناه والدماء تقطر منهما على وجهه ولبدته.
أقبلت الفرس الرقطاء عاصفة وريحا فاعترضها الأسد قبل أن تمر عليه فناور فارسها الذي تبدت ملامحه هذه المرة وذاب بين السماء والأرض والأسد يتعلق بذوائب فرسه العتيقة، وهو يصيح بهم كالصدى:
– لاتبرحوا مكانكم.
لم ينقض وقت طويل حتى سمعت التماثيل الطلقة الثالثة.
بعد وقت عادت الفرس وفارسها وقد علق رأس الأسد وذراعه على سرجه، وقال للرجل:
– طلب منك أبي أن تعود إليه. أنتم آمنون الآن. وانطلق على فرسه وخنجره المطعم الذي فاز به البارحة يقطر من دماء الأسد.
عاد الضيف إلى محلة الأمير ووجد الفتى الشجاع موثوقا إلى جذع شجرة، وأبوه يضربه ويعنفه قائلا:
– لم أهدرت رصاصتين؟ لقد فرطت فالأسد لاشك قضى على ضيوفي.
والمراهق يحلف أنهم سالمون.
فلما أقبل الضيف وابنه رفع الأمير السوط عن ولده وأمر بضرب الطبل ثلاثا، وأقبل الفنان مبدعا معزوفة جديدة للبطل.
لما استقرت خواطر الأمير التفت إلى الضيف قائلا، وهو يحلق قرن ولده بموسى، للبطولة التي حققها:
– أنا أم أنت؟
فقال الضيف مسلما:
– أنت.
م. أحظانا