فاضل ولد الداه كما عرفته / محمد المختار ولد محمد فال
يعيب كثيرون علينا نحن أمة العرب، أننا لا نتحدث عن فضائل رجالنا المتميزين، إلا بعد رحيلهم، ففي الحياة نجلدهم، وبعد الوفاة ندبج لهم القصائد العصماء، ونكيل لهم المديح.
ورغم وجاهة هذا المنطق، الذي يشدد على ضرورة أن يرى الشخص صورته الإيجابية في حياته، إلا أن هناك جانبا ءاخر من المشهد، يقف حاجزا أمام كثيرين، خوفا من تفسير تلك الإشادة وذاك التنويه بخصال شخص ما، بأنه قد يوضع في خانة التملق أو النفاق.. خاصة إذا كان المعني صاحب جاه أو مال، عندها يزداد الموقف إحراجا.
لذا فإن الموت، يزيل ذلك الإحراج ويضع الشخص في حل من تلك التفسيرات، التي قد لا تكون موضوعية في الأصل، لكنها محرجة على المستوى الشخصي على الأقل.
فرغم علمي بمرض المرحوم بإذن الله: فاضل ولد الداه، إلا أنني عند ما تلقيت خبر وفاته، صدمت بشكل هز كياني وفجر مشاعري، وشعرت حينها بفقد شخص عزيز علي، أرى في موته خسارة كبيرة لي وللجميع.
لقد عرفت المرحوم بإذن الله: فاضل، عند ما كان سفيرا في بغداد، حيث كنت شابا نكرة، موفدا من بلادي للدراسة هناك، ورغم ذلك، كنت أشعر أننا أصدقاء منذ فترة طويلة، من خلال انفتاحه الشديد علي ومصارحته لي بأشياء تتعلق بالوضع الذي وجد السفارة فيه آنذاك، وهي أمور قد تدخل نظريا في باب الخصوصيات الرسمية، لكنني فسرتها لاحقا، بأن الرجل لا زال ثوريا وقتها أكثر من كونه مقيدا بقيود الديبلوماسية المفرطة في الصرامة، وقد يكون ذلك من باب الكيمياء الشخصية بيننا.
ورغم قصر فترة انتدابه في بغداد، إلا أن زياراتي له في مكتبه(التي كانت تتم بدون استئذان ولم تكن محل شبهة وقتها)، تعني لي الكثير، فقد كنت أرى فيه المثقف والمناضل، الذي يفوقني وعيا ودراية بواقع البلد والعالم، والذي يتدفق وطنية وثقافة وتحفزا لأن يجعل من موريتانيا نموذجا مغايرا.. موريتانيا التي يرى أنها في أمس الحاجة إلى مسيرين نزيهين ووطنيين مخلصين..إلخ.
وكان ءاخر لقاء لي معه في مكتبه ببغداد، عند ما زرته طالبا منه التدخل لدى سفير السعودية بالعراق، بغية حصولي على تأشرة عمرة- رغم ضيق الوقت- فكان التوفيق حليف تدخله الفوري- جزاه الله عني خيرا وأجزل له العطاء في قبره وجعله روضة من رياض الجنة.
المحطة الثانية، عند ما كان أمينا عاما لجائزة شنقيط، حيث حرص على أن تصلني دعواتهم لحضور حفل توزيع جوائزها، وقد شرفني بزيارتي في مقر الصحيفة، حيث كنت سعيدا بهذه الزيارة، وكانت فرصة للحديث عن ذكريات بغداد.. وزادت سعادتي بمستوى الحديث مع الرجل وما يتميز به من عمق وتواضع في شموخ وعدم ابتذال، فتعمقت لدي قناعة بأنه رجل على مستوى عال من الأخلاق والتواضع، يشعرك بالدفء ويملأ صدرك احتراما وتقديرا.. رغم أنه رجل، لا تخطئ العين أريستوقراطيته الواضحة، الممزوجة بالتواضع الجم.. وهي معادلة من النادر أن يتحد طرفاها في شخص واحد.
وخلال حفل جائزة شنقيط- التي تنظم وقتها بحضور رئيس الجمهورية- كان الحاضرون، يتوقفون عن الهرج والمرج، وتظن أن فوق رؤوسهم الطير: لا حراك ولا التفاتة، عند ما يقف المرحوم فاضل، ليقدم مضمون الحفل ويشرح بإيجاز غير مخل، مضمون كل عمل استحق الفوز بهذه الجائزة، فكانت تبدو المواضيع أروع وأعمق من الصورة، التي يقدمها بها أصحابها لاحقا.
لذا كانت كلمته هي الجائزة الفعلية لتلك الأعمال المتميزة، وكان الإستماع إليها، هو جائزة الحضور، بل كانت هي الجائزة الحقيقة في ذلك الحفل.
ولعمقها وجزالتها، فقد طلبت منه مؤخرا أن يمدني بها لأنشرها للقراء، لكنه اعتذر عن البحث عنها، لكونها موجودة ضمن ملفات، قد تكون مغبرة ويصعب الحصول عليها بسهولة.
ثم كانت لنا فرصة ثالثة وأخيرة، في مقهي خاص بأحد فنادق نواكشوط، حيث كان لنا أصدقاء مشتركون، هم السبب في لقاءاتنا المطولة والمتعددة والخاصة في ذالك المكان، الذي طالما أتحفنا الراحل فاضل بأحاديثه الممتعة، والتي ليست جميعها ابروتوكولية، وإنما كانت حديثا بين المتآلفين، الذي يتشعب أحيانا إلى مختلف جوانب الحياة- باستثناء السياسية.. إلا ما كان من حديث عن الذكريات، المتعلقة بطريقة ومكان طباعة “صيحة المظلوم”، التي كشف لنا أنها كانت تطبع على كثبان نائية شمال شرق نواكشوط، حيث كانوا يدخلون تحت غطاء، يقرأون ما هو مكتوب على ضوء المصابيح(الظويات) وزميلهم يكتب بطابعة “الداكتيلو” على ” استينسيل”، وكان يصف لنا مشاق العمل حينها وصعوباته البالغة، وعند الإنتهاء يتركون معدات الطباعة تحت نفس الغطاء على تلك الكثبان النائية عن المدينة.
وعن ذكرياته عن صدام حسين.. فقد كانت انطباعاته عنه ليست سلبية بالضرورة، رغم أن الحديث لم يتطرق لسياساته، وإنما عن الإنطباعات، التي تركتها لقاءاته معه على المستوى الشخصي.
لقاءات لي معه، كشفت لي عن رزانة الرجل ووقاره وموسوعيته، التي تتنقل من الفن ومقاماته إلى تجويد القرءان وأحكامه، مرورا بما بينهما من علوم وتشعبات في الحياة.
كان ءاخر لقاء جمعنا به في بيته العامر، حيث خصنا بضيافة عشرة نجوم، وكان رحمه الله طيب المعشر، كريم الخلق.
وعند ما بعثت له برسالة- وهو على فراش المرض، معزيا في وفاة نجله، وجدته صابرا محتسبا، لمست تماسكه النفسي، من خلال رده على تلك التعزية.. وهي خصلة نادرة الحدوث في تحمل مصاب كمصابه وفي ظروف كتلك التي يعيشها آنذاك.
استمر التواصل بيننا بعد ذلك على مستوى العالم الإفتراضي، حيث خصني بتعليقات على مواضيع ثقافية كنت أبعث بها إليه وينبهني على جوانب في غاية الأهمية، وكانت ءاخر رسالة مني إليه، تلك التي بعثتها إليه يوم وفاته عن فلسطين وما كانت عليه قبل الاحتلال الصهيوني، لأكتشف مساء ذلك اليوم أنه لم يقرأها، لأنه رحمه الله كان قد غادر عالمنا الفاني وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه.
لقد فجعت موريتانيا في وفاة رجل غير عادي، فكان رحيله خسارة للجميع.. للوطن ولأصدقائه قبل أسرته الفاضلة.
نعزي موريتانيا في وفاة فاضل ونعزي أنفسنا وأسرته الكريمة، لقد كانت وفاته خسارة حقيقية لنا جميعا.
رحم الله فاضل ولد الداه وأسكنه فسيح جناته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي