عظموه عليه الصلاة و السلام بالاتباع!
دأبنا – منذ تفجرت في مجتمعنا موجة الإلحاد بين الشباب متخذة التواتر، من حين لآخر، على الإساءة للجناب النبوي – أقول دأبنا على ردات فعل عاطفية عفوية و سريعة و خشنة في الغالب، قولا و سلوكا … و في الغالب تعطي نتائج عكسية لما هو متوخى منها. غير أننا لم نتوقف يوما عند أسباب هذا الإلحاد الذي أخذ أبعاد الظاهرة الاجتماعية. طبعا، لا يمكن لأحد سوي أن يتمالك و يطالب بالتجرد فورا من عاطفته الدينية و من حرارته الإيمانية حين يتعرض أحد الهالكين لعرض أعظم بشر و أكرم رسول على رب العالمين، عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام من ربه. غير أنه يتوجب- عندما تسكن فورة الغضب العفوي المشروع – أن يتزيل العلماء و المثقفون في مواقفهم عن جمع العوام و نفرة الغوغاء و وثبة المغرضين في هذا الموضوع.فعلماء الدين و المثقفون من حق المجتمع عليهم أن يغوصوا أبعد في التحري على أسباب هذا الإلحاد الذي أخذ أبعاد الظاهرة الاجتماعية. و لكل ظاهرة اجتماعية ( و حتى طبيعية) أسباب يجب تشخيصها بدقة علمية و بموضوعية باردة بهدف الوقوف على أصولها حتى يكون العلاج بعمق جذورها لاجتثاثها من أصولها التي شكلت لها تربة صالحة لإنباتها و أينعت لها مرتعا لنموها و تعاظم حجمها.و دعوني أتطفل على هذا الموضوع لأذكر بعض أسباب هذا الإلحاد( أو الزيغ) في أوساط الشباب من مجتمعنا.
السب الأول هو حصر تعليم الإسلام تاريخيا في فئة اجتماعية دون بقية فئات المجتمع . لقد أعطت فئة الزوايا صورة سيئة عن نفسها حين جعلت، عمليا، بينها و بين دين الإسلام نسبا؛ فأعفت الفئات الأخرى من تعلم الدين و من التعرف على سيرة و أخلاق و مواقف النبي صلى الله عليه و سلم. فحرمان بقية المجتمع من حيازة العلم و اكتساب المعرفة ضمن تقاليد المجتمع و تقسيمه للعمل كان له أكبر الأثر في تشكل وعي، لاحق، متمرد من بعض المنحدرين من الفئات غير ” المتدينة” بالمفهوم التقليدي على الإسلام ؛ خصوصا بعد إيلاج هذه الفئات إلى مصادر المعرفة و اكتساب العلوم بفضل مدارس الدولة الحديثة و الوسائط الرقمية التي وفرت المطالعات الحرة دون قيود و لا مراقبة من حراس قيم المجتمع التقليدي. فاختلط في وعي بعض من أبناء هذه الفئات التمرد على القوى الاجتماعية المتسلطة تاريخيا بالتمرد على الدين نفسه الذي بدا في عيونهم إيديولوجيا وظيفية استخدمته و تريد المحافظة عليه ذات الفئة للسيطرة بالقوة العلمية الدينية لذات الغرض في الهيمنة على باقي الفئات.و هذا أمر بدهي و متوقع أن تكون ردة فعل بعض المنحدرين من هذه الفئات مشتطة إلى درجة الخروج على الدين؛ حاسبين الإسلام على الإديولوجيا الاجتماعية الظالمة!
السبب الثاني يكمن في الانفصام الحاصل بين تطبيق الدين و بين التنظير في الدين. فالأبناء الذين يتربون في أسر بها حفظ القرآن و الذهاب إلى الصلاة في الجماعة بالمساجد… و آباؤهم يرسلون لحاهم إلى صدورهم … و في ذات الوقت يعيشون انحراف هؤلاء الآباء في الغش في تجارتهم و في معاملاتهم مع الناس… و في خيانة أماناتهم و تنصلهم من عهودهم !
تصوروا مركزا تجاريا ضخما مملوكا لإحدى الشخصيات المشهورة بالتدين يجلس فيه صاحبه بعد منتصف الليل مع عماله و ربما فيهم بعض أبنائه ليختم على سلعه الفاسدة، و المنتهية الصلاحية، تواريخ انتاج حديثة مزورة ليغش المتسوقين! و
تصوروا ( رجل دين آخر) لا يفتر عن قراءة القرآن يتأسف صحبة بعض زملائه في التجارة على عجزه عن تزوير أحد الأدوية التي يتاجر فيها بين مواطني بلده! و تصوروا سيدات يضعن الأخمرة السوداء على رؤوسهن في الشوارع و يشهدن أطفالهن على أخدان لهن في البيوت …و تصوروا حركيين سياسيين يتصدرون المنابر و برامج التوجيه الدينية و خطب المواعظ بالمساجد … و في ذات الوقت يخالفون بالممارسة في السياسة ما يدعون إليه و يبشرون به في الواعظين… فيرشحون لتسيير شؤون الناس أفراد حركاتهم السياسية على أساس معايير الولاء و الانتماء الإديولوجي و ليس على معايير الاختبار و التواتر في الاستقامة … و يصوتون لمن والاهم في الحركات و ليس لمن اشتهر بالورع و التقوى؛ بل قد يزورون النتائج لصالح المنتسبين لهم على حساب الانتصار للحق لخصومهم ! ففي مثل هذه الحالات لا مناص أن يحصل انفصام لدى أبناء و أتباع هؤلاء و أولئك… و كيف لا يرق الدين في قلوب بعض من عاشوا هذه التجارب الحياتية الدرامية؟
السبب الثالث يتعلق بالعلماء و الفقهاء المنحازين لأنظمة الحكم على الدوام. هؤلاء أيضا يكثرون الوعظ في كل المواضيع ،في محطات الإذاعة و التلفزيونات … ، إلا التي تتعلق بانحراف الحكام و ظلمهم لرعيتهم. فمثلا هناك مجال عام و خطير بنتائجه على دنيا الناس و على آخرتهم هو الفساد العمومي بجميع شعبه؛ خاصة سرقة المال العام و تبذير الثروات الوطنية- التي تنتج كوارث مجتمعية لا حصر لها في العدد و لا في النوع- بينما أغلبية الشعب يموتون من الجوع و الأمراض و يفسد أبناؤهم أمامهم لعجزهم عن تعليمهم و رعايتهم… و لكن هل سمعتم تحركا جماعيا أو توحيدا لخطب المواعظ و المواقف على مدى حياة الدولة الموريتانية من قبل رابطة العلماء و الأئمة الموريتانيين ضد هذا الفساد! و هل رأيتم عالما موريتانيا، إلا ثلاث حالات مذكورة، انفصل فيها عن خط السلطة و نهجها؟ إنهم يسكتون على ظلم الحكام للمواطنين و يهرعون لنصرة الحكام من أبسط ردات الفعل الشعبية! ففي هذا اليوم الجمعة، فاتح عاشوراء ١٤٤٥ هجرية، لاحظنا توحيدا لكثير من الخطب تحذر من الولوغ في أعراض أولي الأمر… هذا جميل و ينبغي ! لكن لماذا لا يوحدون مرة في العمر خطب المساجد للتحذير من أكل معايش البسطاء من الشعب و العبث بمقدرات دولهم من قبل حكامهم و ذراريهم و حواشيهم!
إن مثل هذه الانتقائية في الوعظ المنحازة دوما للحاكم و الهاملة أبدا للضعفاء من شأنها أن تكون سببا في تهاوي الدين، و العياذ بالله ، في صدور بعض الدهماء و المظلومين الذين يواجهون ظلم الحكام و حشياتهم دون حليف و لا نصير !
السبب الرابع يتمثل في تلك الحركات و الشخصيات التي تشن حربا هستيرية على الاحتفال و الاحتفاء بالمولد النبوي … حتى ليصل بهم الشطط و الغلو إلى القول إن الرسول محمدا عليه أفضل الصلاة و السلام هو بشر كسائر البشر ! و لم يدرك المشطون أن الاحتفالات بالمولد النبوي- التي تتقيد بضوابط الشرع- هي محافل لتأجيج عاطفة الحب للنبي صلى الله عليه و سلم في قلوب الأطفال الناشئين و لدى فئات الدهماء التي يتعرفون على سيرته الطاهرة و حياته العطرة مع أزواجه و أصحابه و أخلاقه العلية و قيمه الكريمة و تعاليمه السمحة و رحمته الشاملة انطلاقا من أنظام الشعراء و المداحين في غدوات و أمسيات مناسبات الاحتفاليات بالمولد النبوي… و لم ينتبه الممانعون في الاحتفال بالمولد النبوي إلى أن دفعهم للعامة من المسلمين عن توقير النبي و تحبيبه بمناسبة مولده سيولد موجة استهزاء بجنابه العظيم في أوساط ناقصي الدين و المعرفة من المسلمين … و حتى في الأوساط العالمية الأخرى!!
و هناك عوامل أخرى منها ما هو داخلي كانهيار التعليم في بلدنا و رداءة محتوى ما بقي منه .. و منها ما هو خارجي مثل تزوية العالم و تحوله إلى حي سكني يتواصل سكانه و يتعايشون كأنهم على حصير واحد بما فيهم من معتقدات و قيم و أخلاق و عادات و أذواق … و مصالح ، ربما لا يتسع لها المقام هنا فقد أطلت على قراء الفيس الذين تميزوا بقصر النفس في متابعة” الجديات” … و لكني أنتهي بالقول إن المعالجة السيتراتيجية لظاهرة ( شين الدين المتفشي في شبابنا)، نسأل الله السلامة و العافية، تتطلب نقدا ذاتيا جديا صريحا لتطبيقنا الفئوي للإسلام منذ ألف سنة و تلزمنا بمراجعة فورية لسلوكنا الحاضر المنحرف عن الإسلام في معاملاتنا في ما بيننا و مع أولي الأمر منا … و إزاء المظلومين من قبل المسلمين … و أخيرا مع المخالفين عنا في الدين … و حتى تجاه مخلوقات الله الأخرى في الطبيعة التي طالها فسادنا و تدميرنا!
و إذا بقينا في تعاملنا مع تفشي هذه الظاهرة على مستوى ردات الفعل العاطفية و النفرات الغوغائية … فسيأتي اليوم، لا سمح الله، الذي تتراجع فيه هذه الهبات الوجدانية … ثم تغيض ليصبح أمر ظهور هؤلاء الهالكين، ربما بجرأة أكبر و بمتتالية أسرع، أمرا عاديا و مألوفا. و لا يمكن أن يحل أحد في موضوع المعالجة السيتراتيجية محل أولي الأمر ثم علماء الدين… ثم إن كان ما زال في مجتمعنا بقية من نخبة غير فاسدة…
محمد الكوري العربي