أعلام

العلامة كراي بن احمد يوره ..

قال لي شيخنا احماده بن ابا إن الله عز وجل قال في محكم تنزيله (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وما أخال نذيركم إلا كراي بن احمد يوره!
فعلا لقد كان العلامة كراي بن محمدْ باب بن امحمدْ بن احمد يوره هو نذيرنا في الحي بل نذير الأمة الموريتانية جمعاء. كان عالم الدعاة وداعية العلماء بقصائده المدوية المنتشرة من اجل نصرة الدين.
كان الأستاذ كراي معلمنا في المدرسة الابتدائية ، وشيخنا في المحظرة ، وخطيبنا في الجمعة ، و رئيس حلقة التدريس في رحاب المسجد الجامع لفائدة الكبار ، والقائم على الدروس النسوية الليلية لصالح النساء، ومسجل الاشرطة بلهجة مبسطة للطبقات غير المتعلمة في وقت السحر، و مُصلحَنا في المجتمع، ومنعش الندوة المسائية في المنزل يشفعها بيسير من التسلية استقطابا للبعض يُظهِرُ فيه من عبقريته العفوية عجبا دون أن يكف لسانه عن الذكر الخفي او تنفك أنامله عن الانشغال في سبحته بما يوحي باستغراق قلبه في غير ما تنعقد حوله تلك الحلقة الجماعية ” الظاموية ” اليومية.
ولتلك الندوة المشهودة ميزة غريبة لأنها تزاوج بين التسلية والافادة المتواصلة فكانت ملتقى العباقرة من كل فن إذ يرتادها ذوو الاختصاص في شتى المجالات، وخاصة بعدما فرضت الظروف الصحية على الأستاذ أن يتخذ لنفسه مقاما دائما في نواكشوط العاصمة.
ظلت هذه الحلقة تستقطب فضلا عن العلماء وكبار الرياضيين والفلاسفة ،كبار التجار والموظفين من كافة الفئات والدرجات بله العاطلين عن العمل.
في شتاء 1993 نزلت ضيفا على أخي المرحوم جمال بن الحسن في منزله في حي آكدال بالرباط وكان يومها مديرا بالوكالة لاحدى مديريات الإيسيسكو فقضيت معه أسبوعا نكاد لا نلتقي في اليوم ويكاد مجلسنا لا ينفض طوال الليل وأكثر ما يستغرقه مراجعة محفوظاته خلال تلك الندوات المسائية “الظاموية” المظهر العلمية المخبر إذ كثيرا ما كان يحفر بحافظته من مروياتها وخاصة من الأدب ما لا يسمح موضوع النص ولا طبيعة المتطفل بالتثبت من سلامة نسخته المروية المتلقفة بين “النزلتين” ولا مجرد الاستفسار عن غير ذلك مما يتعلق به !
أخذ الأستاذ كراي الطريقة الشاذلية على المرابط محمد سالم بن ألُمَّا رحمهما الله و كان معجبا به لا يفتأ يتحدث عن علمه و عن ورعه.حدثني عن أول لقاء بيهما فقال: نزلنا مرة في حلنا و ترحالنا قرب حي اليداليين في أقصى شمال منطقة إكيدي .علمتُ أنَّ به لمرابط محمد سالم فاتخذتُ لي رفيقا و أتيتُه بمبادرة شخصية مني و لمَّا أبلغ الحلم بعدُ! فقلت له:إن الوالدة يُمِّه بنت ببَّها تلتمس ليَ منكم الدعاءَ فاحتفى بي كثيرا و قال: قل لها إنك ستصير عالِما و لو لم تتعلَّم!ثم أهداني قالبا فاخرا من السكر و رافقني للسلام عليها.فلمَّا دخلنا عليها الخيمة بادرت بالقول محتفيةً: نعم الرِّفد رفدُك إذ جئتنا بلمرابط محمد سالم و بالسكَّر معه!
ثمَّ قال : و تجدد لقاؤنا بعد ذلك بوقت طويل فجدد لي بشارته تلك بعد أن أخذت عنه الطريقة و لكنه بادر بعد ذلك فاعتذر قائلا: إن ما قلت لك آنفا قلته غلبةً إذ اعتراني حالٌ ! كررها عدة مرات.
و سمعته يتحدث عن زهد شيخه المرابط فيقول إنه جاءه مرة بمبلغ معتبر هديةً مرسلة إليه من شخص معتبركذلك و ما إن مدَّها إليه حتى تجهَّم وجهُه و ارتعدت يداه و تلكأ في القول و أعرض إعراضا رافقته منه أحوال ما رأى مثلَها منهُ قطُّ .قال أستاذنا كراي: فندمتُ أن أوقعته في مثل ذلك الحرج من حيث أردتُ الإحسان إليه.
و من ورع المرابط محمد سالم رسالته المشهورة إلى الرئيس المختار بن داداه يطلب منه بموجبها اقتطاع أرض ” تندكسمِّ”!
و كان أستاذنا كَرَّاي و هوالشاعر الفريد و النظَّام المجيد كثيرَ الإعجاب بذينك البيتين من الرجز الذين قيد بهما الشيخ محمد الحسن بن أحمدو الخديم وفاة شيخهما المرابط محمد سالم:
بمطلع الشيخ الزمان (أشرقا) == و عاش (طائعا) و لله البقا
في (طِيب) شوال لدى زوال == جمعة سار لحفظ الوالي
و “أشرقا” بحساب الحروف هي 1301 ، و “طائعا” 81 و “طيب” 21 .رمز على التوالي لسنة ميلاده بالتقويم الهجري و عمره و يوم وفاته أي أنه توفي زوال يوم الجمعة موافق 21 شوال من سنة 1382 هجرية عن عمر قدره واحد و ثمانون سنة..
جزى الله عنا شيخنا الأستاذ كراي فإن أكبر ما كان يحرجني منه طوال دراستي في المدرسة الابتدائية هو الزامي التفرد بالوقوف أمام التلاميذ لقراءة ما كتبته من مادة الإنشاء.
وفي سنة 1970 نجح من تلاميذ مدرستنا ثلاثة فقط لولوج السنة الأولى من الإعدادية بينما نجح في شهادة الدروس الابتدائية العربية بفضل جهوده الحثيثة المركزة في التربية و التعليم ثمانية وردت أسماؤهم مرتبة في اللائحة !
وفي السنة الموالية انتقلنا الى ثانوية روصو ثم الى اعدادية خيار في نواكشوط قبل ان ينتهي بنا المطاف سنة 1972 في إعدادية البنين في نواكشوط فور اكتمال بنائها.
هنالك صادفت استاذا تونسيا ذا كفاءة عالية ومنهجية متميزة في التدريس ففوجئت به يعيدني الى سيرتي الأولى مع استاذي كراي في موضوع الإنشاء.
صار الأستاذ ” ابو زواج ” يلزمني هو الآخر تلقائيا بالمثول أمام التلاميذ لأقرأ عليهم من مادة الإنشاء.
أذكر أنني خضت هذه التجربة العسيرة المتجددة في موضوع جديد كان يدور حوله إنشاؤنا في أحد الأيام ألا وهو توصيف المتحف الوطني حديث النشأة آنذاك في دار الثقافة.
ويخيل إلي أن مهمة توصيف هذه المنشأة الحضارية الكبيرة هي اليوم أيسر منها من ذي قبل اذ لم تعد اروقتها بالثراء و لا التنوع الذي عهدتهما به أيام نشأتها الأولى ربما لعوامل التعرية او العرية !
سبحان الله ! التقى عالم محظري بدوي صرف مع استاذ مدني معاصر وافد من حضارة اخرى في اتباع منهج موحد لطالب معين .
وتمر الأيام ويتحقق النجاح في الاعداديتين الفرنسية والمزدوجة في دورة يونيو 1975 في نواكشوط فيتزامن ذلك مع صدور جريدة ” الشعب ” كنشرة يومية ، فتستقطب المنشأة الجديدة من المزدوجين ذوي الطموح المحدود من يحمل قابلية مهما كانت قاصرة للكتابة او ما يسمونه في اصطلاحاتهم الجديدة بالتحرير.
تم اختياري دون عناء لخوض هذه التجربة الجديدة في الحياة.
عندئذ فقط تنبهت الى اهمية ذلك التمهيد الذي بدأ مبكرا على يد أستاذنا كراي وتواصل تلقائيا على يد استاذ تونسي معاصر . فجزاه الله عني بأحسن الجزاء.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.

 

من صفحة الأستاذ الفاضل: محمدن ولد سيدي (بدنه)


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى