الأدب الحساني

محاكاة الأغراض القديمة في الشّعر الحسّانيّ بعد اختفاء الدّافع وتغيُّر الحال/ الأديب الداه شيخاتي

حين تقف على مرتفع زمني في اللامكان وتحاول أن تفسر ظاهرة أدبية موغلة في التّعقيد ضاربة في القدم مترامية الأطراف يحفها الظلام من كل جانب وليس لك من الزاد سوى النظر في عرصات قد عفا رسمها في المخيلة الشعبية، أو صيرورة زمنية قد خلفت وراءها الكثير، وأمكنة قد لعب بها الزمان، و نصوص خلدها التاريخ، رغم ما كان مما لست بصدده..ستدرك لا محالة خطورة المحاولة، وصعوبتها، لكن حذاري من أن تقف عاجزا فالأمر يقتضي التضحية..
كانت تلكم مقدمة لابد منها لتضع القارئ في جو من الترقُّب، ليدرك حقيقة ما نقوم به من أشياء ليس الهدف منها التسلية، ولا هي معول هدم كما يتهم البعض، وليست بتلك البساطة كما يلوح البعض الآخر، ولا تسعى لترضي زيدا أو تغضب عمرا.
وفي هذا السياق سنحاول معكم تفسير ظاهرة صار من حقها أن تناقش أو على الأقل يسلط عليها الضوء نظرا لصيرورة الزمان والمكان ألا وهي ظاهرة “محاكاة الأغراض القديمة في الشعر الحساني بعد اختفاء الدافع وتغيُّر الحال”.
نقول بالله التوفيق إنه من المسلَّم به بداهة أن كل غرض وراءه دافع، وأن الأغراض تتفاوت حسب الحاجة الفنية، والرغبة الابداعية، وحسب الزمان والمكان، والعمر، والحالة النفسية، والشعورية وأن الاغراض قد تكون متباينة إلى حد كبير، فاتّْهيدين ليس كالغزل، والبكاء على الاطلال ليس كالمدح..إلخ
وقد استخدم شعراء الحسانية القدماء تلك الأغراض بجرأة متسلحين بروح الإبداع، وقرب المأخذ، وحسن العبارة، وجودة السبك، وقداسة الأسلوب، بلا تكلُّف ولا إفراط فجاء شعرهم عذبا زلالا لاشية فيه يسر السامع ويأخذ بلبه، ومرد هذا كله وجود الدافع والحاجة الآنية لذلك فقد عاشوا لعصرهم وفي عصرهم وبيئتهم فهذا ولد المبارك ولد اليمين حين يشكر أحد أبناء أهل الشيخ يسرد لنا بعض تلك الألعاب التي عاشها وعايشها بسلاسة وعفوية ودون تكلُّف :”مزال ايحنِي ظهر الدق وماس من تميشَ عبد” والأمثلة كثيرة..وسنحاول سرد بعض تلك الأغراض للتمثيل فقط:
-1-
اتّْهيدين: هذا الغرض -مع أنه فن ملحمي- من شروطه أنه خاص بأهل الشوكة لا يقال إلا لهم ويشترط فيه أن يكون القائل فنانا “إيگيو” فالدافع هو شكر أهل الشوكة، والحاجة هي تخليد بطلاتهم
وقد غاب الدافع والحاجة مع غياب دور أهل الشوكة مع وجود الدولة المدنية وتغيُّر الحال وبهذا نعلن أنه غرض انتهت صلاحيته..
-2-
البكاء على الأطلال والنسيب : من المعلوم أن الناس كانوا أهل بادية يتنقلون بين الأماكن ويخلّفون وراءهم تلك الديار والدمن ولا غرابة إن بكى أحدهم على منزل، له معه بعض الذكريات، أو “وكر” أو “مرتع” أو “حاسي” ..الخ
فهذا أربان وقصته مع دار أهل “أي” وذلك أگوم مشهورة، والكفية يلوح العين اعل تيوشات واعل بخواگة، والأمثلة اكثر من أن تحصى فالدافع هو وجود الطلل والحاجة الشعورية وهي رد الجميل لهذا الطلل، أو تذكار الأحبة ومراتع الصبا وغير ذلك..وقد غاب الدافع وهو الطلل حين ما استقر الناس في المدن والقرى ولم تعد الحاجة تدعو إلى تناوله من تلك الزاوية مع تغيُّر الحال، وبهذا نعلن أن هذين الغرضين قد انتهت صلاحياتهما..
-3-
الشمت: وهذا من أقل الأغراض تناولا عند البيظان وقد انتهت صلاحيته قديما مع وجود الإسلام وانتهت حديثا مع الدولة المدنية وإن كان الدافع إليه لاينتهي والحاجة إليه قائمة.
-4-
المدح : الدافع إليه رد الجميل أو الرغبة فيه لأهل الفضل وأصحاب الجود والكرم، وهذا الغرض باق على ما كان عليه إلا أن استحقار المجتمع للمتناولين له ووصفهم لهذا الغرض باغن التكسب -وإن كانت البيئات تختلف وكذا الشعراء- فينبغي أن توضع حوله بعض الاستفهامات، وأن يغلب أصحابه جانب رد الحميل على جانب الرغبة في الجميل، وإن كان العزوف عنه وتركه أولى لتغير الحال وشح أهل هذا الزمان.
-5-
الغزل: والدافع إليه الشوق والحرمان من ملاقات المحبوبة مع عفة المجتمع ومحافظته، ونرى أنه مع وجود المدارس والجامعات والمدن الكبيرة وشبكات التواصل الاجتماعي لم يعد لهذا الغرض ماكان له في السابق من تلك الحظوة وصار إلى ما صار عليه اليوم من الخشونة والتكلف والتقليد ومرد ذلك كله هو عدم وجود الدافع وتغير البيئة والناس أبناء زمانهم.
ومما سبق نستنتج :
-أنّ الأغراض باقية على ماكانت عليه إن وجد الدافع وساعده الحال (البيئة، المجتمع ).
– أن الاغراض تتفاوت بحسب الأهمية وعليه فليس من المحال أن يهجر بعضها ويحل مكانه غرض جديد.
-أننا أهملنا بعض الأغراض رغبة في الاقتصار وليقس مالم يقل.
– أن لغن يعيش مرحلة من الضعف والركاكة كما تعلمون ومرد ذلك كله هو تلك الأغراض التي نبتت في بيئة بدوية لها سلوكها وعاداتها وكان من اللازم حين جاءت الدولة المدنية أن تنسف تلك الأغراض وتأتي بأغراض تواكب حالها ومتطلباتها.
مع العلم أنه قد ظهرت بعض تلك المحاولات وكان رائدها هو الظاهرة بودرباله اباه مع مطلع التسعينيات في غرضه الجميل “اتفيتيت” والمبدع أحمد ولد الوالد في توجيهياته الجميلة.

وفي الختام ندعو إلى تجاوز تلك الأغراض وأن تحل محلها الأغراض الوطنية والسياسية والقومية وأن يتخلى لمغني عن مشارعه الخصوصية العابرة لأجل أمته ووطنه فكيف يستقيم أن يتمنى شاعر شرب الشاي مع محبوبته في نص غزلي والكهرباء مگطوعة عنها والماء الذي ستتناوله مجلوب على عربة والطريق المؤدية لها مليئة بالحفر ووالدها منذ عدة أسابيع يحاول أن يحصل على ورقة رفع لتتم معالجته في مستشفى في إحدى دول الجاور.

بقلم : الداه شيخاتي محمدرارة


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى