الحاضر ابن الماضي وأبو المستقبل/ الأستاذ الحسن ولد مولاي علي
قدم آباؤنا وأجدادنا من ساكنة هذه الربوع الصحراوية الموريتانية، قدموا إلى الأمة عامة، وإلى الغرب الإسلامي خاصة، ثلاثة إنجازات تاريخية عملاقة، بكل المقاييس الحضارية:
* تمثل الإنجاز الأول في دولة المرابطين التي انطلقت من بلادهم، وانتصرت بسواعدهم، فدشنت عهد الوحدة المغاربية الأندلسية، تحت علم واحد، لأول مرة في التاريخ، وأخرت سقوط الحكم العربي في جنوب أوروبا، قرنين كاملين من الزمن؛
* أما الإنجاز الثاني فمثله احتضان السكان الناطقين بالأمازيغية، وتلقُّفَهم للهجة الحسانية العربية، التي هبط بها عرب المعقل، بحيث هجرت الساكنة لهجاتها المختلفة، تباعا، وانصرفت عنها، إلى الحسانية وآدابها وفنونها، ومنها إلى أمها الفصحى؛
* أما ثالث الإنجازات، فكان معلمة المحظرة الموريتانية التي قدمت للعالم، لأول مرة في التاريخ، بادية عالمة، وخرّجت فطاحل العلماء والأدباء الذين مثلوا، حيثما حلوا، مراجع في كل فنون المعرفة، ومصابيح مضيئة أنارت ديجور الانحطاط ؛
ذلك حديث الماضي الدابر ومآثره؛ فما ذا عن الحاضر وطموحاته وآماله؟ الجواب هو ما يرى القارئ، وما يسمع، معا؛ لقد هبط مجتمعنا البدوي المصرَ والقرية، واقام الدولة، ورفع الراية؛ وأخذ معه إلى العصر الحاضر، الكثير مما الفه في باديته التي خرج منها كرها لا طوعا، مما لا يصلح بالضرورة لنقلته الحضرية؛
المحظرة التي مثلت لساكنة البادية الصحراوية منارات أضاءت حياتهم، وقدمت للساكنة حاجتها من فروض العين وتقويم اللسان، واشتراطات الفتوة، وجدت أمامها في الحضر ما لا عهد لأهلها به من الأسئلة، فلم تستطع قيادة ركب المعرفة، مما اضطر المجتمع إلى إيجاد البدائل المتعددة لها، من مدارس ومعاهد وجامعات؛ ومنها مركز تكوين العلماء الذي أمرت الحكومة بإغلاقه، بحجة أنه لا يلتزم بمنهاج المحظرة.
ما يميز مركز تكوين العلماء، عن بدائل المحظرة، من المؤسسات التعليمية، رسمية وتقليدية، هو درجة وعي القائمين عليه، وإدراكهم العميق لحاجة أجيال المسلمين الحاضرة، إلى من يجدد لها أمر دينها، وهي التي كانت قد تقطعت بها السبل في تيه الحضارة، ليتلقفها الاستعمار الغربي، فتغرق في ظلام ليله الطويل، ثم تفتح أعينها على عالم غريب عما ألفه آباؤها، كل ما فيه هو من صنع وإبداع الآخر المهيمن؛
يكمن الفرق، إذن، في الوعي بحاجة تلك الأجيال الى من يجدد لها انتماءها، ويأخذ بأيديها لتعيد تمثل رسالتها السماوية السامية، من مصادرها الأصلية المنزهة عن الكثير من باطل الزمان والمكان والإنسان؛ وبقدوتها وأسوتها الحسنة المسدده بالوحي عصمة لمُبَلِّغِها؛ وبمبادئها ومقاصدها الإنسانية السامية التي كانت بها رحمة لكل العالمين؛ استعدادا وإعدادا للانطلاق في مقدمة ركب الحضارة من جديد.