محطات من حياة رجل العلم والفضل: محمد فال ولد البناني “امَّفالْ” – يستحق القراءة
محمد فال ولد البناني “امَّفالْ”
قال القاضي الأمين ولد سيدي ولد محمد رحمهم الله:
هو شِ مَتْعَدلْ ينْكالْ — هو فاشْ أثرُ مُخَلِّ؟!
ماهُ لاهِ إظرْ التّعدالْ — عند أهل العَقْدِ والحَلِّ
ما يشطنِّي طُول التحوالْ — ولا كَصر التّحوال امَّلِّ
مَحدِّ عالمْ بامّفال — والوتَّه تمْشِي واتولِّ
صار هذا الگاف نارا على علمية امّفَالْ، ووقفة مُعّرج على ذكره، فضمّنه مداحه في مدحهم إياه، ولم يغفله الأدباء والظرفاء في الإيراد والاستطراد حال حصول مناسبات القول.
أدى المرحوم جمال ولد الحسن فريضة الحج سنة 1982م من بين جماعة ألقت إبان الموسم بالرسن لامّفَال – فهو الأدرى بتلك الشعاب، والعليم بما بين لابتيها…. ولما عاد جمال إلى ثمّ بعد اثنتي عشرة سنة، حدته الذكرى إلى ما كان امَّفَال قد أولاه من عناية فقال:
عنْد ارْجَعْتْ احمدتْ الجَلالْ — لِي عتْ أثنعْشَر عامْ اكمال
عن هَون اتفكَّدتْ امَّفالْ — وذاك التّكرابْ الْعدَّلِّ
ذيك الساعَه واطْريحْ البالْ — وآنَ فالرّجْلي مُدَلِّ
واتفكَّدت اصًّ ذاك الْكالْ — لمرابطْ واحكيتُ، بَلِّ:
“هو ش متعدَّل ينكالْ — هو فاش أثرُ مُخَلِّ”….إلخ
قال محمد يوسف مقلد في كتابه شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون: “السيد محمد فال ولد البناني أحد كرام الموريتانيين الذين أموا المشرق وأقاموا في لبنان بصفة سياسية بعد قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية برتبة “سكرتير أول” لحكومته داخل السفارة الفرنسية في بيروت (60 – 61) وكان لنا شرف التعرف على السيد البناني كعربي طيب الذات، وكصديق وافر الصفات الإنسانية، ويعتبر السيد البناني موسوعة أدبية لأدب بني قومه من قدماء ومحدثين بما يروى لهم ويحفظ من آثارهم، إلا أن حظنا الأدبي من وجوده في لبنان طيلة عام أو أكثر لم يكن موفورا”.
ذلك شيء يسير من قول لا يطلب له البيان ولا الدليل على كرم كريم فاضل مفضال….
ولد محمد فال ولد البناني (امَّفال) في اليوم الحادي عشر من ربيع الأول سنة 1324هـ الموافق 5 مايو سنة 1906م لأبيه أحمدُّ ولد البناني ولد محمد فال ولد ابنُ غازي ولد الفالي (آلج) ولد محم ولد سيدي ببكر ولد سيدي الفالي، ولأمه أم النبي “امناه” بنت محم ولد محمذ ولد لحويج ولد العادل ولد الماقور (امَّا) ولد الفالي ولد الكوري.
بدأ دراسة القرآن الكريم وعمره ست سنوات تقريبا عل يد المقرئ محمد فال الجكني، وواصل رحلة تحصيله الأولي على يد رجالات من قومه بدءا بأحمدُّ ولد محمذن ولد ابَّامين الذي أكمل عليه حفظ القرآن، قبل أن ينهل من معارف العلماء والفقهاء: أحمدُّ الداه (خاله) وأحمد ولد أبن عبدم وبابا ولد عبد الرحمن والمختار ولد ابامين والأمين ولد سيدي وغيرهم…
واستمر طلب امّفَالْ للعلم حتى في مراحل متقدمة من عمره، ورغم شواغله، فقد أخذ على مدى فترات متعددة عن العلامة محمدُّ ولد البراء، الذي صحبه في رحلة جمع جادة، حيث رافقه فترة من الوقت أيام كان امّفَالْ يعمل في بوگي وغيرها من نقاط خدمته الإدارية، وفي بوگي درس كذلك على القاضي أحمدو “أمادو” مختار ساغو، وفي نواح من آمَشْتَيلْ حضر الدرس مع تلاميذ سيدي محمد “الراجل” ول داداه، وفي الحجاز عمق دراساته في علوم الحديث على الشيخ عباس المالكي، حيث كان امّفَالْ من علماء الحديث وأهل الدراية والرواية.
التحق بالمدرسة الإبتدائية سنة 1923 بأمر من خاله محمد عالِي ولد لحويج الذي كان قد تلقى تدريبا في الطب البيطري على يد الإدارة الفرنسية، مما كوّن عنده خلفية مكنته من الإنتباه لأهمية مستقبل التكوين المدرسي المعاصر، فأخذ ابن أخته امّفَالْ إلى المدرسة الفرنسية في بوتلميت فحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة 1926م، وبعدها درس في إعدادية “ابلانشو” في سان لويس “أندر” فتخرج معلما للغة الفرنسية سنة 1928.
درَّس مدة وجيزة في مدرسة المذرذرة قبل أن ينتقل إلى مدرسة بوتلميت حيث حضر خلال سنة 1930 تنصيب أحمد ولد الديد رحمه الله أميرا للترارزة. يروي امَّفّالْ – رحمه الله – أنه كان إلى جنب الأمير أحمد ولد الديد خلال مقامه في بوتلميت صحبة المختار ولد حامدٌ وهو معلم إذ ذاك وقاضي صلح في الدائرة، ومعهما سيدي أحمد ولد ايايَ وهو تلميذ في المدرسة، ويوم تنصيب الأمير أحمد قدمهم للحضور قائلا: هؤلاء أهلي معي، ويروي أيضا أنه ليلة التنصيب لم ينفض سامرهم حتى هزيع الليل الأخير، فكان المختار يسأل الأمير أحمد عن أيامه، ولما تكاثرت عليه ظباء الأخبار أخذ دفترا وبات يقيد مرويات الأمير أحمد.
حول إلى بوگي سنة 1931 وتولى خلال مقامه فيها إدارة المدرسة، وكان معه شقيقه سيدي الأمين مراقبا في المدرسة نفسها.
ثم حول إلى ألاك وقد ربطته إبان هذه المدة علاقات بأعيان لبراكنة، فكانت له صلات متينة مع القاضي لمهابة ولد الطالب إميجن، والشيخ أحمد أبي المعالي الذي رثاه بقصيدة مطلعها:
باب المعالي باب كل فتوة — قد نال كل فضيلة ومزية
وبعد ذلك رجع إلى بوتلميت قبل أن يحوَّل إلى مدرسة امبود، وقد زاره في هذه الفترة أحد المفتشين الفرنسيين وأعد تقريرا عنه قال فيه: إن المدرس في امبود شاب يتقن الفرنسية، لكنه لا يخفي بغضه للفرنسيين.
ثم عاد إلى ألاك التي تحول فيها من التعليم إلى الترجمة، وانتقل منها إلى أكجوجت مترجما.
عين كاتبا في الحزانة العامة فعمل فترة في اندر، ثم في روصو ويروي – رحمه الله – أنه خلال هذه الفترة كان يدفع من الخزينة راتب الأمين العام السابق للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم آمادو مختار أمبو، الذي كان يدرِّس في إعدادية مدينة روصو الموريتانية ما بين سنتي 1951 و1953، حسب سيرته الذاتية.
و بعد روصوحول إلى كيفه كاتبا ثم مترجما، ثم عين كاتبا في المذرذرة التي حول عنها سنة 1958 لينتقل للعمل في نواكشوط.
و خلال العام 1959 وتحضيرا للاستقلال أرسل إلى فرنسا في مهمة تكوين ديبلوماسي دامت عدة أشهر، وبعدها عين كاتبا أول في السفارة الفرنسية في بيروت ممثلا لموريتانيا، وكان بذلك أول ديبلوماسي موريتاني.
ويروى أن أول ما قام به امّفالْ لما عين في المنصب، هو أنه أزاح صورة الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول من على جدار مكتبه، وعلق مكانها صورة له هو، وقد أغضب تصرفه السفير الذي احتج عليه.
و خلال وجوده في هذا المنصب عمل بجد على التعريف ببلده في المحافل العربية وتمثيلها في الشرق الأوسط.
وقبيل الاستقلال عاد لموريتانيا حيث كان عضوا في لجنة الاستقلال مكلفا بملف الإعلام، ويرجع الفضل لـامّفَالْ في تسمية موريتانيا “الجمهورية الإسلامية الموريتانية” عندما احتد الخلاف بين الأطراف السياسية حول الإسم الذي سيطلق على الدولة الوليدة، فكان رأي امّفَالْ محل اتفاق، فقال المختار ولد حامد:
الجمهورية — الاسلاميةُ
الموريتانيةُ — كايلهَا بَنَانِ
واتكولْ الحالةُ — بلسانْ التهانِ
يالمختارْ امحييكْ — بيك امحيّ رانِ
رببليك اسلاميكْ — دلـَا موريتانِ
بعد الاستقلال رجع امّفَالْ إلى لبنان وظل هنالك إلى سنة 1961 حيث عين مستشارا للشؤون السياسية في رئاسة الجمهورية.
وقد تميزت فترته في بيروت بنشاط ديبلوماسي مكثف، فقد كون علاقة مع رئيس الدولة اللبنانية فؤاد شهاب، ورئيس الحكومة إبانها صائب سلام الذي التقى به مرة واستحثه على الاعتراف بموريتانيا، فقال له سلام: إن عروبة موريتانيا لا شك فيها، ولكن الموقف الرسمي من الاعتراف بها مرتبط بالموقف العربي الموحد، وبعد انتهاء اللقاء صرح امّفَالْ لجريدة النهار اللبنانية أن رئيس الحكومة اعترف بموريتانيا، فأحدث الأمر ثائرة، واحتجت السلطات المغربية على الموضوع، ونفاه مكتب صائب سلام، وكان امّفَالْ يقول: إنه أراد من المسألة لفت انتباه العالم العربي إلى موريتانيا، مع أنه كان يقصد بتصريحه للصحيفة اعتراف صائب سلام بعروبة موريتانيا.
وله قصيدة في مدح صائب سلام يقول فيها:
لقـد أحـرزتْ لـبنـان كل فخـــــــامةٍ — لـدنْ عـاد للأمـر الـمهـم “شهـابـهــــا”
فتًى كـان فـي أفعـاله قبـل “صـــائبًا” — وحـاز “سلامًا” للـبـلاد انـتخـابـهـــــا
فصـار شهـابًا ثـاقبًا عـــــــــند أمةٍ — وأبعـدهـا مـن حـيث نـاح غرابـهــــــــا
وقـد أسندوا طـوعًا إلـيـه أمـورهـــــــم — فقـام بـهـا، والغـير كـان يـهـابـهــــا
هـنـيئا وبشـرى للـوزارة كلّهـــــــا — بـمـا أحـرزت خـيرًا كثـيرًا تـرابـهـــــا
بها افتخرتْ لـبنـان، وامتدّ صيتها — إلى أن عـلـت فـوق الشعـوب كِعابـهـــا
لهـا أذعـنـت قسـرًا طـوائف شعبـهـا — وحـازت فخـارًا تـرتديـه هضـابـهـــا
وعـاش بها فـي العـدل كلّ مـواطنٍ — وسـاغ لـمـن يـهـوى الشـراب شـرابـها
ونـالـت بـهـا كلّ الـمفـاخر صـيـدهــا — وزان بنـات الشعب مـنهـا خضـابـهـا
فذي “مـورتـان” الأخت تهدي سلامهــا — إلـيكـم، ويُهدى بعـد ذاكـم كتـابـهـا
وتأمـل مـنكــــــم أن يؤوب بحظوةٍ — إذا بُثّ فـي الشّعب الكريـم خطـابـهــــــا
ليحيى “شهاب” الأرض ما دام “صائبًا” — لشعبٍ وأرضٍ، كي تَصُوب سحابها
وقد علق يوسف مقلد على القصيدة بقوله: “لقد تعمدنا أن تكون قصيدتك أيها الصديق مسك الختام لهذه المجموعة القيمة من الشعر الموريتاني وأنت تعلم أننا لا نفرط أبدا بإحترام ذاتك الكريمة وإنزالك المنزلة اللائقة من قلوبنا ومجتمعنا، ونحييك ونحيي بلادك بأحسن مما حييتنا وحييت بلدنا لبنان أرض المحبة الطيبة للناس عموما والعرب خصوصا”.
من مواقف امّفَالْ في بيروت وصراعه من أجل الاعتراف بموريتانيا ما قام به من دور نشط في سبيل ذلك خلال انعقاد مؤتمر الجامعة العربية في مدينة شتورة اللبنانية.
ومن طريف تلك المواقف ما جرى إبان انعقاد مؤتمر المرأة العربية في بيروت سنة 1960، حيث حضره امّفَالْ كممثل لبلاده فشد وجوده بين النسوة في جلسة الافتتاح انتباه الحضور! فمازحهم أنه لم يلاحظ فروقا بين الرجال والسيدات الحاضرات للمؤتمر.
ومن المصادفات أن امّفَالْ كان من غير المصدقين بالكثير من قضايا غزو الفضاء، وكان أن التقى خلال فترته هذه برائد الفضاء الروسي الشهير “يوري غاغارين”.
وفي بيروت، كان معه إضافة إلى أسرته الوزير الأسبق محمذن ولد باباه، والأستاذ محمد ولد سيدي الفالي ولد بييني، وزاره المختار ولد حامد، كما زاره شقيقه سيدي الأمين “ديدِّيه” الذي ذهب من بيروت إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وكان “ديديه” رحمه الله عابدا معلَّقا قلبُه بالمساجد ساعيا في عون الضعفاء.
خلال موسم الحج لعام 1381 هـ / 1962م انعقد المؤتمر التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي وطلب امّفَالْ – الذي كان من بين الحجيج – من رئيس الوفد الموريتاني أن يحضرالمؤتمر ممثلا لموريتانيا، فرد عليه بأن الأمر يستدعي موافقة من نواكشوط، وقتها ذهب امّفَالْ إلى المؤتمر وقدم نفسه كممثل لموريتانيا، وحضر المؤتمر، ووصل الخبر إلى الرئيس المختار ولد داداه الذي فرح به وهنأ امّفَالْ على المبادرة، وقد نال امّفَالْ عضوية المؤتمر التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وكان آخر أعضائه وفاةً.
كان رحمه الله صاحب دور بارز وفاعل في عمل الرابطة ومؤتمراتها، ويرجع له الفضل في اتخاذ قرارات هامة منها على سبيل المثال رفض تحويل مقام إبراهيم عن مكانه الأصلي، وكان يتزعم قطبا موازيا للاتجاه الوهابي في الرابطة، مع السادة العلماء والمشائخ علال الفاسي ومحمد الفاضل بن عاشور وأبو الحسن الندوي والشيخ إبراهيم نياس وعبد الله گنون وأبوبكر جومي وحسنين مخلوف رحمهم الله.
وكانت بينه مع مفتي المملكة السابق الشيخ عبد الله بن باز – رحمه الله – مباحثات في التصوف والعقيدة الأشعرية، وكان بن باز يجله ويوقره، وبينهما في ذلك قصص كثيرة طريفة، كما كان الشيخ محمد علوى المالكي – رحمه الله – يلقبه “أسد إفريقيا” وذلك لكثرة وقوفه واعتراضه على الآراء الوهابية، ولكن العلاقة الأقوى في الرابطة كانت تربطه بالشيخ محمد سرور الصبان، ولقد أوفى الأخير حق ذكر تلك العلاقة في كتاب مذكراته.
ظل امفال مستشارا سياسيا في رئاسة الجمهورية إلى سنة تقاعده 1967م حيث تفرغ للعمل الدعوي ونشر العلم، وفي العام 1975 اقترح على الرابطة فتح مكتب في موريتانيا، فتولى إدارته حتى نهاية الثمانينيات.
حج امَّفّالْ – رحمه الله – البيت الحرام تسعا وعشرين مرة متتالية، إذ لم يتخلف عن حضور الموسم منذ العام 1379 هـ / 1960م إلى العام 1407 هـ / 1987م حيث تقدم به العمر وأعجزه المرض عن أداء النسك.
وفي أمره مع الحج عجب! فقد روي أنه كان برا بأمه “أم النبي” التي كانت تحبه حبا جما ولا تتحمل طول غيابه عنها، فكان إذا جاء من غيبته، يترصد هدأة الليل حتى ينام الناس، فيأتي أم النبي ويضع يده في يدها وهي نائمة فتسأله من يكون؟ فيقول: أنا محمد فال ولد البناني، فترد عليه من شدة فرحها قائلة: سلْ حاجتك من الله، فهي مقضية بإذنه تعالى، فيقول حاجتي أن أستطيع تأدية فريضة الحج، فتقول له: ستحج وتحج وتحج… حتى تعجز عن أدائه! وكان من قضاء الله أن مكث امّفالْ سنين طويلة لم يستطع خلالها الحج، وتعذر عليه الأمر! فكان يفكر دائما فيما وعدته به أمه من أنه سيحج حتى يعجز عنه!! ولكنه استبان الأمر بعد ذلك حين كان يدعى كل سنة للحج من طرف رابطة العالم الإسلامي إلى أن قعد به المرض عن التلبية.
كان امَّفّالْ – رحمه الله – منفقا جوادا من “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية”، يصل أرحامه أينما كانوا ،ويعم نواله الناس أيا ما كانوا، كما كان من “الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى”، ورغم ما تقلد من المناصب وما توفر له من فُرص سانحة لتحصيل المال، فقد آثر أن يكون في هذه الدار “كأنه غريب أو عابر سبيل” فلم يدخر لحياته الدنيا منها شيئا، وتُوفي وهو لا يملك من متاعها إلا القليل. لقد “آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق” !.
وإذا كانت الصدقة تنسأ في العمر بالمعنى الحسي على أحد الأقوال، فقد رُوي أن الأطباء كانوا يتعجبون في آخر أيام امَّفَالْ من بقائه على قيد الحياة، رغم أن جميع الوظائف الطبيعية قد توقفت عن العمل!
وحول كرم امّفَالْ وإنفاقه دندن الناس، ولهجت ألسنة أهل القول، فقال أيمين كافه المذكور آنفا، وكان لعالمٍ وقاضٍ آخر من العشير قول آن مجيء لـامّفَالْ فعل فيه محمودات من معتادات محامده، فقال محمد ول أمين “أبُّو”:
عندِي عنكم يالخطَّارْ — تركُ لمجِ ذِ النوبَه
إلى تدرسْ ذِ لخبارْ — اشويْ وتكطَع جوبَه
ويكفي من ذلك أن قومه كانوا يسمون أي حي يسكنه امَّفَالْ باسم شيء يتعلق به، تيامنا واعترافا بالجميل. فقد كان حي كامل من ذويه يُدعى “حية الرابطة” إشارة إلى دور امَّفَالْ في تأسيس رابطة العالم الإسلامي ثم تمثيلها في موريتانيا. كما أن في قرية التاكلالت إلى يومنا هذا حياً يعرف بـ “لبنان” استحضارا لمقام امَّفَالْ في ذلك البلد بدايةَ الستينيات من القرن الماضي.
وكان أطفال في مدينة المذرذرة يدّانون من أصحاب الحوانيت على ذمة مرور امّفَالْ بالمدينة قادما إلى التاكلالت من نواكشوط، فكانت العبارة منهم لصاحب الدكان: أقرضنا كذا، وإن يمرر امّفَالْ اديناك حقك، وكأنهما جارية بدر!
ولعل في رثاء الخليفه ولد سيدي الأمين ولد عاون، لـامّفَالْ ما يشهد لذلك:
ماتتْ عزتْ يان ذَ بعد — واگبيلِي كاملْ مَنْسانَ
ماتت حك أمعَ ذاكْ الحدْ — ألِّ بيه أمشَ مولانَ
حاجلّك يالبتولْ امجيه — من حجاتُ وذاك ابديهْ
امنْ البذلْ الِّ طبْ اعليه — الْزَيدْ ولأعمَرْ والْيانَ
حاجلكْ مرسولْ امّشِّيهْ — جانَ فخريفَه جَهْلانَه
فالبحبوحْ امْشيْتْ آنَ فيهْ — وجَيْت آن واحدْ ماهْ آنَ
وحاجلك زادْ ادَّاويهْ — اليانَ عالمْ مـــولانَ
بُبَكر نصبَحْ ل وانْماسيهْ — والوتَه مَاهِ فترانَه
كان لـامَّفالْ – رحمه الله – من الأصحاب عدد كثير، ولكن من أقربهم إليه ثلاثة هم: المختار ولد حامد وهو أكبر منه سنا، وأحمدُ ولد حرمة ولد ببانا وهو معاصر له، ومحمد سعيد ولد الشيباني وهو أصغر منه سنا،- رحمة الله على الجميع- وسنعرض لعلاقته مع كل واحد منهم، وأول لقاء بينه مع كل منهم.
أما أحمدُ ولد حرمة فكان أول لقاء بينهما ما روى أمَّفَالْ من أنه جاء مع أمه أم النبي إلى الشيخ محمد فال (اباه) ولد بابه ، فصادف مجيئهما أن جاء أحمدُ ولد حرمه مع خاله أحمد فال ولد النَّنيه إلى محمد فال، فطلب منه الخال الدعاء لأحمدُ، وقال له إنه سيذهب إلى المدرسة، فنادى محمدفال على أمَّفَالْ – وكان على علم أنه يدرس في المدرسة الفرنسية – فقال له سلم على صاحبك يعني أحمدُ، فتعارفا، وفي مفتتح العام الدراسي التقيا في المدرسة، وبدأت علاقتهما تمتد وتقوى حبال وصلها، والغريب أن أمَّفَالْ جمعته المدرسة تلميذا مع أحمدُّ ثم درَّسه. وقد كان لأمَّفَالْ بلاء حسن في دعم ومساندة أحمدُ إبان ترشحه لمقعد نائب في الجمعية الفرنسية.
وأما محمد سعيد ولد الشيباني فكان أول لقاء جمعهما في مدينة اندر، التي جاءها محمد سعيد مع والده الشيباني ولد عبدي في أوبة لهما من المدينة المنورة إلى موريتانيا، وخلال مرورهما باندر مرض الشيباني، وكان نازلا عند أهل ابن المقداد، وخلال تلك الفترة كان محمد “مامّ” ول ابن عبدم، في اندر فعلم بمرض الشيباني، فلقي أمَّفَالْ ، فقال له: ستذهب معي الليلة لعيادة رجل فاضل من أمره كذا وكذا، وعند مجيئهما إلى الشيباني كان ذلك أول لقاء بين أمَّفَالْ ومحمد سعيد، ومنها ظلت اللقاءات تترى، وأواصر المحبة تقوى، ووشائج الوداد تنمو.
أما المختار ولد حامد “التاه” فقد كان هو وامّفالْ كندماني جذيمة، لطول اجتماعٍ حقبة من الدهر، فكثيرة هي القواسم المشتركة بين الرجلين، فقد امتد حبل الخلة بينهما طويلا، فلم ينصرم، فرعيا زمان ذلك الوصل حق رعايته، وشادا بنيان حميد تلك العلائق فلم يتصدع.
لقد كانت مبتدآت التلاقي بينهما في أزمان الصبا أيام جيرة الحيين حيث ملتقى القتاد والطلح في بطن حوت إگيدي كما عرّف أحمدُ ولد احبيب، وذات لقياهما “قبلة البحر” لم تجد الكلفة بينهما مستقرا، فكان أمرها كأمس الدابر، ولم يدع أحدهما الآخر وقتا من الأوقات إلا لعارض ملح مانع من الجمع بينهما، فكانت اللبانات – مر تلك الليالي – تتوارد بين التاه وامّفالْ الذي يخاطبه:
أعنِّي في التعلم يا خليلي — فما ترك التعلم بالجميل
ولا تترك خليلك حلف جهل — فإن الجهل يزري بالخليل
فرد المختار:
أعينك ما استطعت بقدر جهدي — وقدك الفهم من عون الخليل
فليس إذا تفهم فيه يوما — بحمد الله فهمك بالكليل
ويقول فيه وقد عاد كل أعضاء الوفد الرسمي للحج إلى موريتانيا، ولم يبق غيرهما:
الحمد لله الذي أخلى لي — وجه أخي هذا محمد فال
يحيطني بالبر والإجلال — جزاه ذو الإكرام والجلال
بجاه سيد الورى والآل — وبالسعيديين أهل الفال
وله فيه أيضا:
لقد تعلق بالأستار بناني — كما تعلق مختارٌ هو الثاني
أغفر لبنان والمختار ربهما — واقبل تعلق مختار وبناني
ويقول كذلك يعنيه:
أرض الحجاز من غريب شانها — حرانها اليوم على بنانها
حتى لقد رأته من ولدانها — فاشتملت عليه في أحضانها
وسرتِ العدوى إلى فلانها — والحمد لله على حرانها
وقال المختار أيضا يعني امَّفَالْ في مناسبة حفل للجالية الموريتانية في السعودية:
أهل الحجاز على البنان قد لهجوا — بالمدح لست أحاشي أي إنسان
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا — حتى يروا عنده آثار إحسان
وقد “حرك” حامدُ ولد محمذ “دداه” ذات مرة “السلك” من بوتلميت للمختار في اندر فلم تصادفه المكاملة، لكن من ميمون الطالع أن كان امّفالْ موجودا، إذ من البديهي أن يرد على حامد بمقتضى المطلوب، والموافق للمراد، ولم يخبر خليله، إلى أن أحس الأمر من والده، فكان قوله:
جوابك سلكا جاء من “قبلة” البحر — جوابُ فتى برٍّ لبيب رِضى بحر
وسلكك في الأسلاك مبرومُ كرة — سلوكُ بني ديمان مبرومة الكر
وحدث امّفالْ قال: زارني – أيام كنت أدرِّس في مدرسة بوتلميت – بعض الأقارب من تلاميذ المدرسة إذ ذاك، وبينا هم يعدون الشاي وأنا مستلق على سرير في جانب “التِيكِيتْ” أقرأ في النسخة المطبوعة – في تلك الفترة – من ديوان محمد ولد أحمد يورة، إذ عرضت لي أبياته:
بكاء حمامات تغنين بالأمس — يرد قلوب المرعوين إلى الدكس
بكيت لأيام بكين لمثلها — فأصبحن من جنس وما كن من جنس
يذكرنني عهدا قديما ومعهدا — أحب إلى نفسي لياليه من نفس
فهاجت الأبيات غراما، وحركت ساكن عقابيل شوقٍ، فقلت:
تذكرت والأقوام تضرب للكأس — مغان بذات الشول عادمة الجنس
أقمنا بها دهرا جميلا مساعدا — يرد قلوب المرعوين إلى الدكس
وفي الغد زارني التاه كعادته فأريته إياها، فزاره هو كذلك طيف من ذكرى، فقال:
تذكر خلي ما تذكر بالأمس — وإني له مثل فما أنا بالعكس
فذكرني أيضا زمانا مساعفا — أحب إلى نفسي لياليه من نفس
قال امّفالْ:
أشاقتك أوطان لهند ومنزل — كما الخل شاقته المنازل بالأمس
وقد وافقتْ أزمانُ خليَ أزمني — فأصبحن من جنسي وما كن جنسي
فرد التاه:
تغنى بشعر رائق النسج مطرب — أنيس الذي ما مثله اليوم في الإنس
فأ طربني حتى بكيت من الأسى — بكاء حمامات تغنين بالأمس
وفي ملاطفة أخرى بينهما قال امفال:
يابن الأكارم يامن لا مثيل له — ما الرأي في خلد قد شابه وله
من أجل ذكر فتاة شابها مرض — والمشي لآن إليها لا سبيل له
فرد المختار:
إني تألمت مما قد ألمت به — ومسني وله إذ مسك الوله
ولا أقول سوى ما كنت قلت لنا — وذو الحجا من يعي ما كان قيل له
أمر النصارى كما قد قلت معذرة — والحب يقبلها حتى تقابله
وكثيرة هي الملاطفات الشعرية بينهما، فمن ذلك هذه، وقد شاركهما فيها محمد ول بيي التندغي الذي يقول:
يشفي غليلك نجل القرم بناني — بمرهم الهم من أسلاف ديمان
من حسن خلق وأخلاق مهذبة — علم وحلم وإكرام وإحسان
ليأخذ الشيب والفتيان منه حذا — أخلاق ديمان من شيب وفتيان
لا زال في رفعة عليا وفي سعة — سرور حب وغيظ المبغض الشاني
وعمنا ذا وإياه بمن شرفت — به قبائل الياس وعدنان
له السلامان من رب الأنام كذا — نجوم إسلام إحسان وإيمان
قال امفال:
حيا الإله وبيا سامي الشان — سليل بيي بما حيا وبياني
ندب تمكن في علم وفي أدب — هذان من وصفه شيئان سيان
أهدت لنا منه جيان ابن مالكها — وأتحفت بأبي حيان جياني
لو قمت أحسب ما فات الكرامَ به — يوما وجلى على الأعيان أعياني
في ذنب أزماننا أخلاقه شفعت — فأخجلت بنت منظور بن ريان
هذا وما إننا حيان نحن معا — فإننا لذوا عهد أخيان
قال المختار ول حامد:
لا ينقضي عجبي من أم رومان — وما تخلق من بخل وليان
تأبى ابن بيي وبناني وعن صلتي — تأبى وتقبل هيان بن بيان
حسبي بها بابن بيي إن ظفرت به — وبابن بنان إن ظفر ببناني
كانت اللقاءات متصلة وعلائق المودة مجتمعة وسائلها، فتصاحبا في الحل والنشاط، وتسامرا في لبنان والحجاز، والبتراء وتوجنين وغير ذلك، فاضمحلت الفروق وانْحَل التآلفُ والتصافي جسمَ الكلفة بينهما، فكان مالامفال للتاه وما للمختار لامفال، فكانت عند امّفالْ سيارة “ديشفو”(Deux chevaux) وتكون عند التاه ذات حاجته، حيث يقول:
“فرسان” عند صديقنا البناني — أو عندنا بعبارة الديماني
تفديهما “خيل لوالد زينب” — وفداهما خيل على سفوان
وقل أن يغفل المختار مناسبة، تستدعي ذكر امَّفالَ إلا ذكره! يقول المختار في قصيدة نظم بها رحلة هجرته إلى المدينة المنورة:
ودعت أهلي موهنا وشعوري — يحز الضمير بما يؤد ضمير
كان اتجاه الفكر مختلفا — فقد عاينت ألوانا من التفكير
فالنفس تشعر بالسرور منغصا — خوف الشرور تمتع بسرور
فتعاركا في النفس نصف دقيقة — وسطا السرور على احتمال شرور
وجهت وجهي للخبير بنيتي — وإليه في سفري وكلت أموري
وركبت طائرة يكدر صفوها — “تبريسها” نوعا من التكدير
لولا ابن جد فإنه ورفيقه — رهن بتيسير لكل عسير
ونزلت في باريس في رأد الضحى — ولقيت في باريس خير سفير
كانت هناك صعوبة لكنه — قام السفير فجاء بالتيسير
وقصدت من باريس بيروتا ومن — بيروت فهي جدة خير عشير
قوبلت بالترحيب والتسهيل والـــ — تيسير والتبجيل والتوقير
كانت لدى الشيبان خير إقامة — ولدى العنان بأحسن التيسير
سيارة سارت إلى البنان بي — وإلى الوزير بفندق التيسير
ومحمد شيخ الحديث بأرضنا — وجماعة من خيرة التكرور
أقضي لدى الشيبان بعض لبانتي — عند العشاء وعند كل بكور
كان انطباعي ناميا متكررا — أنمى النمو وأكثر التكرير
وكذاك بالبيت العتيق وفي منى — والموقف العرفي للجمهور
أرسلت من دمعي هناك صبابة — عبرت فيها عن ضمير شعور
وتشكري للعسكريين الألى — قد سهلوا للقوم كل مسير
كان امَّفالَ – رحمه الله – شاعرا أديبا، ذواقة، ولقد بدأت قصته مع الأدب وتعلقه به في بواكير شبابه، فيروى أنه أيام كان يدرس في الإعدادية في اندر، جمعته صلاة الصبح ذات مرة في أحد المساجد مع محمدن ول ابن المقداد”دودُ سك” فلما سلم عليه امَّفالَ سأله محمدن: من أي قبيلة تكون؟ فرد عليه أنه: من أولاد سيدي الفالي، فسأله عن تاريخ مولده؟ فأجاب امَّفالَ: بأنه ولد في عام كذا، فقال محمدن: إذن ستكون من “عَصْرِ أولاد أحمد”! وسأختبر مدى سرعة حفظك ببيتين قلتهما البارحة قبل النوم أرحب فيهما بالشيخ سيداتي ولد الشيخ سعدبوه، وقد أُخبرتُ بقدومه، والبيتان لم أُسمِعهما لأحد قبلك وهما:
قول المبشر جاء الشيخ سيداتي — قول تضمن أنواع المسرات
أقول والقول منسوب لقائله — أهلا وسهلا به من قادم آت
وغني عن القول أن امفال قد نجح في هذا الإختبار….
والشيء بالشيء يذكر وعلى ذكر الأدب ومحمدن ولد ابن المقداد وامَّفالْ فقد جرى بينه في نفس الفترة لقاء مع سيديا ولد هدار غير بعيد من سابقه مع دودُ سكْ، وذلك أن امَّفالْ لقي سيديا، وبعد السلام والتعارف سأله امَّفال قائلا: شنهُ التالِ اتْگُولُ من شِ امّيْرَرْ؟ فطرب سيديا من كلمة ” امّيْرَرْ ” فقال لـامَّفال هذه كلمة ” سلاخْ” وما إن الأمر كذلك فسأسمعك أطلعْ قلتهم في مدح محمدن ول ابن المقداد، ولم يسمعهم مني أحد حتى الساعة لكون محمدن يوجد في مهمة خارج اندر، فأسمعه اطلعْ وهي قوله:
ول ابن معلوم عهدُ — والدين ابذل فيه جهدُ
راعِ كٓلْ اكتاب عندُ — فوگْ أوخرْ مطروح
إلى آخرها….
ترك امفال ديوان شعر ثريا متعدد الأغراض، منه قوله في مدح الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم:
إنـي أتـيـت رسـول الله فـي بـلــدِهْ — نزْلـي يكـون بتقبـيلـي إذًا لـــــــــيَدِهْ
لنـيل حـاجـي وحـاج الأهل قــــاطبةً — إنـي ولا أنـتهـي عـدّاً إلى عـــــــــدده
زرت الـحـبـيب ولـي فـي حــبّه سلفٌ — وفـيـه لـي سندٌ لا طعْنَ فـــــــي سنده
الشـوق لي سمدٌ، والروح مزرعةٌ — وجـودة الزرع والإنـتـاج مــــــــن سمده
فأنـتجـا حـبّه فـي القـلـب مـــــــنطبعًا —- فـي قـالـبـي كلّه لـمـنـــــــــتهى أمده
إذ حـبّه سببٌ فـي حـبّ مـــــرسله — وذلكـم سببٌ للـحـبّ فـي عبـــــــــــــده
قـد زرته سـابقًا بـالروح مـــــن بعدٍ — والـيـوم ذا زرته بـالجسم فـي بـلـــــده
وزوره جـالـبٌ للخـير أجــــــمعِه — أعطـاه ذا ربّه وازداد فـــــــــــــي رصده
مـن زاره وقضى تُقْضَى حــوائجه — فلـيجتهدْ فـي الـدعـا جهرا وفـــــي خَلَده
لـذنـا بـه وبآلٍ مع صحــــــابته — مـن شـرّ مـا يشـتكـي الإنسـان فـــي جسده
وشـرّ مـا نختشـي مـن شـانئٍ وقِنـا — شـرّ الـحسـود ومـا قـد كـان مــن حسده
وصلّ ربّ عـلى الهـادي محـمد مَنْ — قـد مدَّه ربّه فـي الكـون مـــــــن مدده
وله أيضا:
سراب ما أمامك من سراب — فذا ثور وذا جبل الغراب
ولعلع قد يلوح وذا حراء — وذاك أبو قبيس يطل راب
وخندمة تلوح والاخشبان — وذا بيت الإله حلى التراب
وذا حجر السعادة قبلنه — لتسلم في الصراط من اضطراب
مقامُ للخليل بها وأمن — فصل به ودع عنك الزرابي
وملتزمُ التزمه وفي حطيم — وحجر صل تملأ لي جرابي
وزمزم قد يروق لنا شرابا — كما شرب استسغه من الشراب
ومن قوله كذلك:
يقول فلان ما يقول وأصفح — ويأخذ من عرضي كثيرا واسمح
دعوه وما قد قال لست بقائل — وكل إناء بالذي فيه يرشح
ومن شعره أيضا:
طـاف الخـيـــــــــــــــــــــال وزارا — لـيلاً وطـاف نهــــــــــــــــــــــارا
وطـاف أيضًا صـبـاحـــــــــــــــــــــا — وطــــــــــــــــــاف مسْيًا مِرار
فـازددت مـنه اشـتـيـاقــــــــــــــــا — ولـوعة وادّكـــــــــــــــــــــــــارا
وذقت مـنه غرامــــــــــــــــــــــــا — يُصْلـي جحـيـمًا ونــــــــــــــــــــارا
إن الغرام لـــــــــــــــــــــــــمضْنٍ — والقـوم مـنه أســـــــــــــــــــــارى
فذاك مـنه حـزيــــــــــــــــــــــــن — وذاك جَنَّ وطــــــــــــــــــــــــــارا
وإضافة إلى الشعر الفصيح، كان رحمه الله شاعرا مقلا بالحسانية. من ذلك قوله في النقد الإجتماعي:
فأوَّل ذ الدهْر أمُور الناسْ — كانتْ شُورَى بيناتْ أجْناسْ
امْن الناسْ ولا فيهَا باسْ — عند الباقي منهم، معروفْ
ذاكْ افْكلْ الناس ولا حاسْ — حد ابثقلُ. واصْبَحَتْ اتشوفْ
النّاس اتعيَّط ذُ الأدْهارْ — اعلَ الأمور اعياطْ الخَوفْ
وتعكب نتيجتْ ذاك أفكارْ— ويوفَ ذاك اعلَ ذاك وتَوفْ !
ورغم مهامه وشواغله الكثيرة الجلى، فلم يغفل التصنيف والبحث والتجميع! خاصة أنه عكف خلال أغلب مراحل حياته على مشروع ضخم تمثل في جمع تراث قبيلته، وصاغه في موسوعة تاريخية شاملة، وقد واصل – رحمه الله – تحريرها حتى آخر أيام حياته، رغم ظروفه الصحية الصعبة، وإلى جانب هذا العمل المميز ترك مؤلفات توزعت على فنون شتى منها:
– نظم في ما اشتهر بالضم من فعل بالفتح
– نظم وشرحه في مرويات الصحابة دعاه: “مؤتمر الصحابة”
– منظومة في حقوق المرأة وواجباتها
– كتاب أعرف وطنك في التعريف بموريتانيا
– رسالة في وجوب الجمعة على أهل اگجوجت
– أنظام وتقييدات كثيرة في الفقه والنحو والعقائد وغيرها من الفنون
وبعد عمر زاخر وحياة حافلة معطاء، انتقل امَّفَالْ إلى رحمة الله يوم السبت 21 جمادى الثانية 1417هـ الموافق 5 اكتوبر 1996م ودفن بعد تشييع مهيب في مقبرة ابّيْرْ.
وقد أجاد الشعراء في رثائه – رحمه الله – ومن ذلك قول القاضي محمدن ول بارك الله:
مصيرك يادنيّا للزوال —وليس بك اللبيب أخا انشغال
وليس بك الذكي أخا اغترار — بزخرفك المموه لا يبالي
يراك على اكتساب المجد عونا — كذلك كنت في نظر امفال
فتى قد كان في العليا مثالا — وفي بذل الندى أسمى مثال
وكان مجليا في المجد يرعى — حقوق الكل محمود الخصال
تقيا للنواهي ذا اجتناب — ثقيا للاوامر ذا امتثال
مآثره تفوق الحصر مالي — يدان بعدّ ذرات الرمال
جزاه الله ريحانا وروحا — بمثوى في جنان الخلد عال
بحيث ثوى الرفيق هناك الاعلى — وأنزل منزلا صعب المنال
وبارك في العيال وأينا لم — يكن عند امفال من العيال؟
بجاه المصطفى الهادي عليه — صلاة الله دائمة اتصال
ومن ينمى إليه فنال فضلا — بذاك القرب من صحب وآل
وقال أحمدُّ ولد محمدن ولد حمينَّ:
كل شيء للزوال — غير ربي ذي الجلال
وجنود الموت لا تنـ — ــفك تدعو للنزال
طالما قد افقدتنا — كل شهم النفس غال
غير أنا ورضينا — بقضاء المتعالي
مادهانا من مصاب — كمصاب بامفال
هل لهذا الحزن يوما — من زوال واحتمال
أو لدمع أو لجرح — من وقوف واندمال
ما وجدنا لامفال — من مثال في امتثال
واجتناب واجتلاب — للمعاني والمعالي
وصَلاة في الليالي — وصِلات للأهالي
وبحوث في تراث — بأمال وتآلـ ــــيف
وفعال ذي جمال — كان في كل مجال
ربنا جد لامفال — باحتفاء واحتفال
وسرور وحبور — ومقام في الأعالي
من جنان ليس فيها — تقال أو ملال
واخلفنه واحفظنه — في الأهالي والعيال
وصلاة وسلام — لن يزالا في اتصال
للمحلى ما ابتغاه — من جمال وكمال
من صفحة التاكلالت