أسطر عن الشيخ عبد الرحمن ولد الشيخ محمد الحسن
شيخُنا عبد الرحمن ولد حشَّن أستاذ الأساتيذ
بينا أنا مستغرق في أبحاث عن أسباب منشأ بعض الأفكار وانتشارها في الأمصار والأقطار عبر مؤلفات ذاعت، وأعلام رحلوا من قطر إلى آخر، ومشايخ جلسوا للتدريس أعوما عديدة فتزاحم عليهم آلاف الطلبة ثم تفرقوا في الآفاق، وأفذاذ ناظروا نظراءهم فكانت كلماتهم مفاتيح للفهم مقاتل للجهل، كنت أسائل عن تلك الأفكار كتب الطبقات ومعاجم التراجم والأسانيد العلمية في مصنفات البرامج والفهارس الأندلسية والمغاربية ومعاجم المشيخات المشرقية إذ جاءني سؤال بسيط من موريتاني مغترب يستفهم عمن أعرف من السادة الأعلام الفضلاء المعينين حديثا في مجلس الفتاوى والمظالم؟ وأرفق سؤاله بلائحة أسمائهم مستفهما لا منكرا فصعقني سؤاله وصدع كبدي استفهامه.
والحقيقة أن سؤال صاحبي لم يصعقني ولم يصدع كبدي لأنه قطع خلوتي “الذهنية” التي كنت ألاحق فيها تَجوال الأفكار وبعض حيثيات تطورها فأقضي أياما “فكرية” بالعراق والشام وبلاد ما وراء النهر، وتارة أرد مع قوافل الحجيج مكة والمدينة لألقى أهل اليمن ومصر وسائر الأمصار في أيام الحج حيث تباع الكتب وتتداخل الأسانيد وتذيع الأفكار، ثم يكر ذهني قافلا إلى الغرب الإسلامي بأمصاره الكبرى، وإنما لأني اعتبرت واستغربت أن في الدنيا من لا يعرف الشيخ أو الأستاذ عبد الرحمن ولد حشن كما كنا نصفه تمييزا له عن الشيخ التي غلبت على والده شيخنا العلامة الشيخ محمد الحسن شيخ محظرة التيسير.
إن سؤال هذا المغترب عن الأسماء التي من بينها أستاذي الشيخ عبد الرحمن ولد أحمدُّو الخديم يدل على أنه لم يُصبح بالتيسير يوم السبت ولا قالَ به يوم الاثنين، ولا بات به ليل الأربعاء عازما على السفر صباحا فيلاقي عبد الرحمن في حلقة درسه “والطير في وكناتها” فيقدمه على الطلاب لئلا تفوته سيارة محمد عبدالله ولد خمنَّ “للَّاهي” أو أهل ابَّه، وهو سؤال على ما فيه يُفهم القارئ دلالات ما يلاقيه في كتب التراجم أحيانا من أن فلانا أشهر من أن يعرف أو يذكر أو يوصف؛ فياسائلي هذا الشيخ عبد الرحمن ابن شيخنا العلامة محمد الحسن ابن العلامة الطبيب أحمدُّو الخديم ابن الشيخ الأديب مولود ابن العلامة أبي محمد بن العلامة اللوذعي مولود ولد أحمد الجواد:
نسب كأن عليه من شمس الضحى … نورا ومن فلق الصباح عمودا.
فوالده الذي تخرج على يديه هو شيخنا العلامة محمد الحسن ولد أحمدُّو الذي جمع بين سعة العلم ومتانة الدين وعظم المنفعة وكان في جمع العلم والزهد والتعليم كأبي المطرف القرطبي فـ”سلك سبيل السلف المتقدمين من هذه الأمة في الزهد في الدنيا، والبعد عن الأمراء والقناعة باليسير، والحرص على التعليم والرضى عن الله”.
وكان هذا الوالد المبارك العلامة حج في النصف الأخير من سبعينيات القرن الماضي وعاد بمجلدات من كتب الصوفية منها إحياء علوم الدين للغزالي فأكب عليها واستوعبها وهزته مواعظها فعزم على اعتزال الناس وعدم مخالطة طلاب العلم والتفرغ للعبادة والتأمل والاعتبار، ولم يثنه عن ذلك العزم إلا قول الإمام مالك بن أنس في رده المشهور على عبدالله بن عبد العزيز العمري الزاهد الذي نصحه بالانفراد والتأمل فكتب إليه مالك رسالة منها “..فنشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر”، ووقت مراجعة الشيخ حشن لقراره واقتناعه بالعودة إلى محراب التعليم والصبر على لأوائه ومصاعبه وُلدَ له ابن فسماه باسم العلامة محمد عبد الرحمن ولد السالك العلوي “النح” وتفاءل بأن يكون ممن ينشر العلم والخير في العالمين فكان عبد الرحمن في باب تعليم العلم والصبر على تدريسه لا يضاهى تبارك الله أحسن الخالقين.
لئن كنا في عصر تغولت فيه المادة و”جرى العمل” شرقا وغربا بأن الناس يعملون في ساعات محددة يتقاضون عليها رواتب نهاية الشهر فإنما رأينا من الشيخ عبدالرحمن ولد حشن لأمر آخر مختلف لا يقوم به إلا أولو العزم من العلماء الصادقين فهذا الشيخ منذ شبابه المبكر إلى اليوم 22 مايو 2022 -أطال الله بقاءه- وهو يجلس لطلاب العلم يشرح لهم المتون من مختلف الفنون من الساعة الثامنة صباحا وحتى الواحدة ظهرا، فيأخذ قسطا من الراحة حتى الرابعة ثم يواصل شارحا ومعلقا ومتصديا للمشكلات وأسئلة الطلاب حتى صلاة المغرب فيستريح مع أمه الفضلى حتى يصلي العشاء ثم يواصل مشواره التعليمي حتى منتصف الليل من غير ما ضجر ولا كلل جزاه الله عن الإسلام وأمته أحسن الجزاء.
إن الصبر على التعليم والمواظبة عليه -كانت في القديم والزمان شباب- منقبة عظيمة لم يؤتها إلا أفاضل من العلماء ذكر الذهبي منهم في ’سير أعلام النبلاء’ شيخ المالكية ابن رزق القرطبي الذي كان كالشيخ عبد الرحمن ولد حشن “يتوقد ذكاء”، وكان كما قال ابن مغيث “أذكى من رأيت في علم المسائل، وألينهم كلمة، وأكثرهم حرصا على التعليم، وأنفعهم لطالب فرع”.
كما عد الذهبي من أقطاب التدريس الشيخ عماد الدين ابن قدامة أحد أركان هذا البيت القدامي الحنبلي المبارك الذي توطن سفح جبل قاسيون إذ وصله وهو ابن ثمان سنين، وكان من أكثر الناس “صبرا على التعليم”، “وربما كرر على الطالب من سحر إلى الفجر”، وكان برنامجه العادي أنه “يجلس في جامع البلد من الفجر إلى العشاء، ولا يخرج إلا لحاجة، يقرئ القرآن والعلم، فإذا فرغوا اشتغل بالصلاة”، ولذا لم “يتفرغ للتصنيف من كثرة اشتغاله وإشغاله”.
أجمع عدد من طلاب المحاظر وهم المولعون بالمقارنات أنهم ما رأوا مثل الشيخ عبد الرحمن ولد حشن في طول التدريس والصبر عليه مع موسوعيته في المتون والفنون من كتب السيرة النبوية وأنساب العرب إلى شرح أشعار الستة الجاهليين وكفاف المبتدي ومختصر خليل وطرة ابن بونه يذكر الطلاب بقول ابن ألفغ في شيخ الشيوخ محمد سالم ولد ألما:
في الفقه والنحو شيخي لا نظير له… وكل قرم إلى إقرائه قرم
فإن أتت طرة المختار يقرئها.. حتى يرى الحاضرون النار تضطرم
وإن أتاه خليل يوم مسألة .. يقول لا غائب مالي ولا حرم.
وفي المساء يسبح مع منهج الزقاق وقواعده وتحفة ابن عاصم وألفية الحديث للسيوطي والكوكب الساطع وعقود الجمان وللسيوطي تقدير في التيسير عز نظيره، ولم تذهب هذه الجهود سدى فعلى يد الشيخ عبد الرحمن ووالده تخرج مئات الأساتذة والقضاة والأطر وشيوخ المحاظر فهو بالفعل أستاذ الأساتيذ تفرق طلابه في أصقاع الدنيا وعبروا البحار والقارات، والشيخ الشاب لا يتخلف عن التيسير ليلة السبت فقد ألزم نفسه أن لا يغيب عن حلقة العلم لا يترخص ولا يعتذر.
والشيخ عبد الرحمن في كل فضائله حسنة من حسنات والده شيخنا الذي بارك الله وقته فجمع بين كثرة التآليف وتنظيم وقت التدريس، وما رأيت مثل الشيخ حشن دقة في الوقت؛ ففي الحادية عشر إلا خمس دقائق يخرج من بيته العامر إلى الجامع ويعتدل في جلسته مع تمام الحادية عشر ويبدأ في الشرح حتى الواحدة ثم يواصل بعد العصر حتى المغرب، وكان في شبابه وقوة عطائه لا شغل له إلا التعليم والتأليف وعلى هذا السنن يمضي -أطال بالله بقاءه- معافى مكرما، والشيخ حشن معجب بذكاء ابنه عبد الرحمن وتدريسه إعجاب تقي الدين السبكي بدروس ابنه بهاء الدين إلا أن التصريح ليس عادة “شمشوية”، فلن يقول حشن كما قال السبكي:
دروس أحمد خير من دروس علي … وذاك عند علي غاية الأمل
ولئن قالها سننشد مع الصفدي إجازته لهذا البيت:
لأن في الفرع ما في أصله وله … زيادة ودليل الناس فيه جلي.
ومن لطائف ذلك الإعجاب أنه أشار لأحد الطلاب بإعادة الألفية على عبد الرحمن قائلا: “الألفية اللا هون حد بعد اشوف امعاها افذا البيت” البيت الذي كان يزدحم فيه الطلاب على الأستاذ عبد الرحمن ذي الفتوة الكاملة والأخلاق الحسنة العجيبة فما يرى الشيخ عبد الرحمن وقت الدرس إلا مبتسما، ولم يكن يحد للطالب قدرا معينا من المتن فمن الطلاب من يدرس عليه من الكفاف مائة بيت دفعة واحدة، ومنهم من يدرس خمسين بيتا من احمرار ابن بونه مع طرتها، ومن جرب التدريس عرف صعوبة هذا.
ولعل أغرب خبر سمعه أهل محظرة التيسير أيام وجودي فيها هو أن في الدنيا من يتقاضى أجرة على التعليم فقد أخبر الشيخ حشن بذلك طالب ليبي قادم من مصر كان يدفع دولارات لشيوخ فيها علم مقابل دروس في المقرأ، فلم ينقض عجب الشيخ من ذلك، وما فتئ يسأل عن هذا الأمر بتعجب واستغراب!.
حفظ الله أشياخنا أهل التيسير أجمعين وجميع طلابهم وخريجهم، وهنيئا لمجلس الفتاوى والمظالم بالتحاق شيخنا عبد الرحمن به وفقه الله ومن معه وسددهم وجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر.
د. إبراهيم ول يحظيه (الدويري)