تواصل.. ألغام الحقبة الشرائحية / شماد ولد مليل نافع
كان گي مولى (Guy Mollet)يقول عن ميتراه أنه الرجل الذي تعلم أن يتكلم الاشتراكية, في إشارة إلى خلفيته اليمينية واتخاذه اليسار مطية, تنطبق هذه العبارة تماما على الأستاذ جميل فهو الشرائحي الذي تعلم خطاب الإسلاميين, يتخذه مقدمة لإسقاطاته التي لا ترى الفرد إلا من خلال خاناته القبْلية التي لا استحقاق له فيها ولا ذنب. مكن الأستاذ جميل خلال حقبة نفوذه داخل حزب تواصل للشرائحيين, في عملية استحواذ ممنهجة, حتى تحول الحزب الإسلامي الذي مكانه الطبيعي وسط أحزاب المحافظين إلى ناد لمتطرفة اليسار الثقافي, ولن تكون القنبلة الانشطارية الأخيرة التي تبادل فيها القادة لغتهم, -القادة الذين صنعتهم الحقبة الشرائحية بتقديمهم على أئمة السبق وأصحاب الكفاءة في التيار الإسلامي- آخر ألغام تلك الحقبة, وستحتاج القيادات المتلاحقة لأكبر أحزاب المحافظين إلى كثير من الحزم والحكمة لتفكيك الألغام المتناثرة على طريق العودة بالحزب إلى هويته الطبيعية. وقد كان موقف جماعة اليساريين الشرائحية داخل الحزب من اللغة العربية كاشف لعلاقتها بمحددات هوية التيار الإسلامي.
أعتقد أن الأستاذ جميل ككثير من أبناء مختلف فئات المجتمع التقليدي شرائحي صادق, وأن تمكينه للشرائحيين داخل الحزب, وخارجه عبر الماكينة الإعلامية للتيار, لم يكن بدافع الانتهازية السياسية استغلالا للشرائحية لتحقيق أهداف استيراتيجية للحزب, بل لأن الشرائحية هي جوهر نضاله السياسي, محركه الثابت, كان الحزب وأذرعه الإعلامية مطية لتجذيرها داخل المجتمع, فكان في رئاسة الحزب ينسج بصمت شبكة جذورها, يختلق الذرائع لتقديم الشرائحيين من الصف الثالث أو الرابع من المنتسبين على أئمة التيار الإسلامي من أصحاب السبق والكفاءة, وحين فقد ورقة رئاسة الحزب التي اقتضت العمل بصمت, وقف على منبر الشرائحية داعية مفوه, لا يهاب حدود التطرف. يقف حزب تواصل على مفترق طرق, وعليه أن يختار بين الهوية المحافظة وبين متطرفة اليسار الثقافي, لا يمكن الاستمرار في صناعة قادة تبين خطابهم بأصوات شعب المحافظين.
إن الشرائحية لا تعدو أن تكون الطفح العاطفي, على جسد الحاضر, لما يعتقد الشرائحي أنه أحداث الماضي. وهو طفح لا علاج له, لأن علاج الماضي تطبيب ميت. تصيب ردة الفعل النفسية هذه بعض أبناء الشرائح التي يعتقد أن من أجدادها من تعرض لظلم, لكنها لا تقتصر عليهم فهي تصيب أيضا -بنسبة أقل بطبيعة الحال- بعض أبناء من كانوا في الجهة المقابلة عبر التقمص الوجداني لشعور أبناء تلك الشرائح خاصة إذا كانوا أقارب أو مقربين, تماما كما نجد بين اليساريين الصادقين الأثرياء وأبناء الأثرياء. وهي حالة نفسية صحية داخل كل مجتمع ويجب أن تعامل كذلك, ما يجب أن نحاربه هو تحولها إلى فعل سياسي أو أن يعيش المجتمع على وتيرة فوراتها, لأن ذلك يمهد عبر صناعة الكراهية لولادة قوميات داخل المجتمع الحساني -لأن القومية لا تعدو أن تكون اعتقاد بانتماء مشترك تشكل المخيلة الشعورية التاريخية أحد أهم أركانه- بما قد يترتب على ذلك من أحداث لا تخدم الإنسان والتنمية, أبعد الله طقسها عن هذه الأرض وهوائها.
إن الشرائحية الفردية ليست خطرا على المجتمع, إذا فهمنا أنها ظاهرة نفسية تتراجع فوراتها بانحسار غليان الشباب, ظاهرة نفسية طبيعية بل صحية وتعاملنا معها كذلك, نفرق بينها وبين الحقوق. إن للظلم رواسب, أعظمها رواسب الظلم الذي لم نعشه, عشناه بالنيابة تخيلا, لأن ظلم الواقع نعرف ظروفه فنضعه في إطار حيثياته ونزنه بقيم زمانه, أما الظلم الذي عشناه بالنيابة تخيلا فنستطيع بأريحية تامة أن نضعه على حلبة الخير والشر, ونختار خيرين ناصعين وأشرارا, في مشهد واضح لا غبار عليه, جردته مخيلة الانحياز العاطفي من قسطلان الصراع البشري. وإن الفرق بين الشرائحيين والحقوقيين هو أن الشرائحيين يتأوهون من أحداث الماضي -الذي رحل ظالميه ومظلوميه إلى حيث لنا لا يخبرون- ويشخصون حالتهم النفسية, وأن الحقوقيين يشخصون عيوب الحاضر ويناضلون من أجل إزالتها, ويجب أن تزول. إن سؤال, هل وقع ظلم تاريخي؟ رياضة ذهنية لا يترتب عليه أي شيء, لأننا لن نقضي للأموات من الأموات وإن بلغنا عدالة عمر, وإذا أورثنا ظالمية أو مظلومية للأحياء أوقعنا ظلما على أبرياء, فلو قدمنا شخصا واحدا من طبقة يعتقد أنه وقع عليها غبن تاريخي على من هو أكفأ منه لأنه من شريحة أخرى نكون قد أوقعنا ظلما لا ينجينا منه أن ميتا كان قد ظلم ميت -غفر الله لعباده أو عذبهم, برحمته وعدله- ولو قدمناه لكفاءته كان البعد الشرائحي للمسألة ظلما له, لأنه إنما تقدم لأنه استحق تقديمه.
إن كثيرا من الشرائحيين يندفع بنية حسنة على ما يعتقد انه طريق المساواة, لكن طريق جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة -أو النيات- كما تقول العبارة. دون تعقل وحكمة تحول طاقة العواطف اندفاع ثور, تفسد ولا تصلح, إن الشرائحية السياسية ستقود في أحسن الأحوال إلى إطالة فترة احتضار العقليات التقليدية بزيادة حضور البنية المجتمعية التقليدية في حياتنا اليومية, وتعيق التحول نحو المجتمعات الفردية التي وحدها كفيلة باختفاء عقليات الماضي وأسواره وخنادقه التي تشكل رافدا من روافد المظالم التي يناضل الحقوقيون لإزالتها, وقد تقود في أسوأ الأحوال إذا استمرت صناعة الكراهية إلى خلق قوميات داخل المجتمع الحساني, لن تسير بنا إلا على طريق الأفق المظلم, طريق البلقنة. يجب أن يدرك ذلك أولئك الذين يقسمون المناصب داخل الأحزاب والحكومة والإدارة على أساس الخانات القبْلية التي لا استحقاق للإنسان فيها ولا ذنب, أولئك الذين يهيئون الظروف ليكون الخطاب المتشنج مطية لمكاسب سياسية أو مادية أو اجتماعية.
كما تبين ليس المأخذ على الاستاذ جميل هو الشرائحية السياسية -وهي في حد ذاتها مأخذ- فهو في ذلك واحد من خلق كثير, بل إن خطابه الشرائحي دون كثير منهم تشنجا. المأخذ أنه اتخذ التيار الاسلامي حاضنة لها, وأذرعه الإعلامية وسيلة لتجذيرها داخل المجتمع, بشكل مخالف لهوية التيار وقناعة أئمته ومنتسبيه باستثناء مجموعة اليسار الثقافي التي هو من زرعها في جسم الحركة وتعهدها حتى أثمرت قطافها التي تتكشف يوما بعد يوم. لا أعتقد أن الأستاذ جميل كان مهندس الشرائحية, لأن لها أمة من المهندسين بدوافع تتراوح بين الانتهازية بمركباتها المختلفة وبين مقاربة ساذجة للمساواة تنتشر بين متطرفة اليسارين التقدمي والإسلامي, ولكنه كان رأس شبكة احتضانها الأكثر تنظيما.
وفق الله وأعان