آراء وتحليلاتالأخبار

بعد اعتقال المتهمين بالإلحاد.. جميل منصور يخرج على مألوف المجتمع ويكتب:

ح 1 : عن الحرية
يحاول البعض أن يصور الدعوة إلى الحرية باعتبارها أمرا دخيلا على قيمنا الإسلامية، ويتبارى بعض البعض هذا في تعداد مخالفة الحرية ومقتضياتها لما يراه هو شرعا وأحكامه وفي ذلك يستسهل إيراد الأدلة الداعمة من ظواهر النصوص إلى مقولات العلماء إلى قصائد الشعراء! ويشكك في كل داعية حرية ويعطي لها كل التفسيرات المفضية إلى الحكم السالب عليها فهي الميوعة وهي الآنحراف وهي التفلت وهي الدفاع عن التنصير والعلمانية والمجون!!! ، وقديما انتبه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله واستغرب من هؤلاء الذين تطحنهم العبودية فيتفننون في شتم الحرية مثل أولئك الذين يؤذيهم الاستبداد و”يبدعون ” في تعرية الديمقراطية.
حديث في الأصل والمنطلق :
لقد خلق الله الكون والإنسان وقدر أن يكون هناك اختلاف وتباين وتعدد في الأديان والأنماط والأشكال، ومن حقيقة الخلق المجسدة للتنوع إلى حقيقة الشرع القاضية بأن ” لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم” ويلزم الانتباه هنا أن تقرير هذا الأصل ” عدم الإكراه ” جاء بعد وضوح الحق من الباطل فلم يكن سابقا لذلك ينقض بتقريره، ولم تنجح مقولات النسخ ولا التخصيص ولا التأويل في تقييد هذا الأصل المقرر لعدم الإكراه، وكانت آية سورة يونس واضحة بالصيغة الاستنكارية بعد صيغة العموم الواردة في البقرة قال تعالى “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ”
وقد أمر الدين بالدعوة إليه ونشره لا فرضه أو إكراه الناس عليه وحتى الآية التي يعتبرها بعضهم هي آية السيف والحاضة على القتال انتهت بنتيجة سياسية ترمز إلى الخضوع للدولة لا نتيجة دينية ترمي إلى الدخول في الدين ” قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ”
والله الذي لم يكره خلقه على الهداية – والشك في قدرته على ذلك كفر بواح – وأبى الإكراه على أنبيائه وجعل من أصول وكليات الدين الخاتم عدم الإكراه، أودع في الإنسان حرية اختيار، حسابه عليها عند ربه يوم الدين، ولعل ذلك يفسر كثرة ذكر القرآن الكريم للعقوبة الأخروية للمرتد عن دينه ( موضوع الردة في الحلقة الثانية من هذه السلسلة)
ولعل مشاهد التاريخ البشري في دعوات الأنبياء ثم أتباعهم والصالحين من بعدهم تنقل إلينا صور معاناة هؤلاء وهم يثبتون على حقهم وينشرونه وما نقلت إلينا صورهم وهم يفرضون حقهم أو يكرهون الناس عليه، والدين يكره النفاق ولا يشجع عليه والمجتمع الصالح يلفظ أخلاق الإخفاء ومخالفة الظاهر للباطن.
للأمر أصالته وأصوله:
وقد نقل لنا التاريخ الإسلامي نماذج من الحرية واحترامها في شأن الدين واتباعه والدنيا وتدبيرها وقد نقل أبو عبيد في “الأموال” قصة وسق الرومي الذي كان مملوكا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له عمر : أسلم فإن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين… قال وسق : فأبيت فقال عمر ” لا إكراه في الدين ” قال وسق : فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال : اذهب حيث شئت.
وقد كان موقف الإمام علي رضي الله عنه من الخوارج وقد خرجوا فكريا وعمليا مثالا للمحاسبة على الأفعال لا الأفكار وعلى الممارسات لا النظريات ” كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب ” واختصرها رضي الله عنها مرة ” لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فسادا ”
ومشهورة هي نصوص المصالحة التي تمت مع غير المسلمين في البلاد المفتوحة ” …. على دمائهم وأموالهم وملتهم وبيعهم ورهبانيتهم وأساقفتهم وشاهدهم وغائبهم ….” ” … أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم … ” “… الأمان لكم ولأولادكم ولأهاليكم وأموالكم وصوامعكم وبيعكم ودينكم وصلواتكم ..” ومقولة الفاروق رضي الله عنه عندما صلى خارج كنيسة بيت المقدس محفوظة معلومة :”خشيت أن أصلي فيها فيزيلها المسلمون من بعدي ويتخذونها مسجدا” ولابن القيم كلام مفيد تعليقا على قصة وفد نجران الذي استقبل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ففيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضا إن كان ذلك عارضا ولا يمكنون من اعتياد ذلك ”
لقد اشتهرت فتوى للإمام الحنفي ابن عابدين في حاشيته أثارت استغراب البعض وتنويه البعض الآخر عندما ذكر أنه إذا اختصم مسلم وكافر لدى القاضي في صبي فادعى المسلم أنه عبده وادعى الكافر أنه ابنه ولا بينة عند أي منهما فإن القاضي يحكم ببنوته للكافر لأنه سينشأ حرا، وقد سألت مرة المرحوم الشيخ محمد سالم ولد عدود عن هذه الفتوى فقال لي لاتستغرب ففي نزاع الأصل تقدم الحرية.
ولذلك لم يكن غريبا أن يعمد علماء المقاصد المتمكنون إلى اعتبار الحرية من المقاصد الشرعية، وهو الأمر الذي اعتمده وشرحه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية وتفسير التحرير والتنوير.
والحرية معتبرة في الإيمان ابتداء ثم في التكليف، والناس أحرار فيمن يختارون، والحرية من الاستعمار سلوك المجاهدين ومن الاستبداد منهج الصالحين ومن الظلم الاجتماعي طريق الأحرار، ولا خير فيما طريقه الإكراه أو سبيله الفرض.
وقد كان اللقاء والاتفاق بين الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحرية في المنطلق والنشأة ذا دلالة مهمة ” فكل مولود يولد على الفطرة ..” وقد أوضحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا غموض فيها “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” ومناسبة المقولة ظلم وقع من ابن صحابي أمير على قبطي مصري وفي الإعلان العالمي ” يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق …… .”
صحيح أن الحرية لا تكون مطلقة وتترك طبيعة كل مجتمع وقيمه وثقافته آثارا منظمة – أفضلها على مقيدة – للحرية ولكن ليس على نحو يعود بالنقض على الحرية ومعناها وحقيقتها.
وقد شهد التاريخ الإسلامي حركية فكرية وثقافية واسعة ولم يضق يوما بالتنوع والتعدد بمعانيه الدينية والطائفية والمذهبية، وكان العصر العباسي الذي شهد تداخلا بين الأمم والثقافات فترة شهدت المساجد والمنتديات فيها حوارات واسعة طرح فيها المعروف والغريب، المعلوم والمنكر بل كانت هناك حوارات مع ملحدين وأشباههم.
ويشهد المنصفون من دارسي التاريخ والعلاقة بين الأديان أن الحضارة الإسلامية في الشام والعراق ومصر والأندلس والمغرب وتركيا وفضاءات جغرافية أخرى قد حافظت على مكونات وأقليات مسيحية ويهودية وغيرها رغم قوة هذه الحضارة وسيطرتها في هذه الفضاءات وقدرتها على ما أقدمت عليه أمم إخرى أبادت وهجرت وأرغمت المخالفين دينيا وأحيانا طائفيا أومذهبيا.
والذين يضيقون من داخل الحالة الإسلامية بحرية الآخرين علمانيين وليبراليين ينتهي بهم الأمر غالبا إلى الضيق بمن يخالفهم الرأي حتى من داخل المرجعية الإسلامية وقد ظهر ذلك في بعد التجارب التي انتهى فيها الحق محصورا في من يتبع فهم هذا الشيخ فقط، والعقلية الطاردة من الفهم السليم المحتكرة لاتباع المنهج القويم هي التي دفعت بعضهم إلى إخراج أكبر مكونات أهل السنة أي الأشاعرة من دائرة السنة والجماعة!.
مع كل هذا يوجد حد فاصل بين الحرية والفوضى، وبين الرأي والاستهزاء، وبين الفكر والسخرية والتلاعب، الحرية في الفكر والرأي ممارسة جدية لا وصاية فيها على الناس ولكنها مقتضية لأساسيات الاحترام والمسؤولية،وتنضبط بالثوابت ولاتمس المقدسات ويحتاج هذا الأمر عدلا وضبطا حتى لا يستفيد الاستهزاء من الحق المضمون للآراء والأفكار مهما خالفت مألوف الناس وحتى لا تعمم تهمة السخرية على كل رأي مخالف.

 

من صفحفة القيادي بتواصل جميل منصور


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى