ثقافة

من تراث علم الفلك في بلاد شنقيط إسلم بن السبتي

في كتابنا معجم أسماء المؤلفات الموريتانية المخطوطات، آلاف عناوين الكتب التي جادت بها قرائح علماء بلاد شنقيط، جمعتها من المصادر التي وقفت عليها، وقد حاولت ما وسعني ذلك أن أشير إلى المطبوع منها، غير أن الكثرة من تلك العناوين ذكرتها المصادر وفهارس المخطوطات، فكان من اللازم علي أن أعرف بالمخطوط وهل هو متوفر؟ أم مفقود؟

غير أن تلك المرحلة لم تتم بسبب تباعد المكتبات وانتشارها في هذه البلاد الواسعة، ومع ذلك فلم أهملها مطلقا، بل إنني وجدت بعضا منها قد استفاد منه بعض المؤلفين ونقلوا منه دون أن يذكر في مكان معين، فكان علي أن أخطو خطوة أخرى للتعريف بتلك المخطوطات التي وقفت علي شذرات منها في مخطوطات أخرى، وأن أجمع ما تبقى منها.

وقد قمت بأول عمل طال كتابا نادرا للعلامة صالح بن عبد الوهاب الناصري المتوفى سنة 1272ه، وهو كتابه الإعلام بالأماكن والأعلام، الذي استفاد منه العلامة سيدي عبد الله بن محمد بن محمد الصغير بن انبوج المتوفى سنة 1300ه، في تأليفه النادر: خزانة الأدب في أنساب العرب، وقد نشرت ذلك العمل في مجلة العرب التي تصدر عن مركز المرحوم علامة الجزيرة حمد الجاسر، وعلى هذا وضمن هذا المنهج وقفت أخيرا على شذرات من كتاب كان مفقودا، غير أنني عثرت أخيرا على نسخة خطية منه مما سمح لي بأن أذكر نتفا مما وقفت عليه في هامش مخطوطة من مخطوطات مكتبة شنقيطية أصبحت مصدرا آخر تكمل النسخة التي عثرت عليها.

أما الكتاب فهو كشف الغمة في نفع الأمة، لمؤلفه الحاج أحمد بن الحاج الأمين القلاوي المتوفـى سنة 1157هـ.، فالكتاب يعد من أقدم مؤلفات علم الفلك في بلاد شنقيط، وهو شرح على نظم السوسي، حيث قال المؤلف: أردت بحول الله وقوته أن أتكلم على رجز الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى بن أحمد بن داوود بن أبي بكر السوسي المسمى بالمقنع في علم أبي مقرع. وكان السبب في تأليفه قوله: لما سألني بعض الطلبة الراجين إقراءه في كل عام، إذ هذا الرجز هو معتمدهم في البادية، وهو الذي يحفظه أكثرهم.

وبما أن هذا الرجز كان كما وصفه شارحه، بالندرة فلا بد لمن يهتم به أن يحصله وينقل نسخة منه للاستفادة بها في ذلك العلم الصعب، علم الفلك.

إن هذا الشرح الذي قام به المؤلف كان شرحا نادرا وفي رقعة بعيدة عن حواضر مدائن التراث في بلاد شنقيط، كما أنه فقد في فترة من الزمن فكان تعويضه بما بقي من الشذرات على هوامش المخطوطات التي احتفظت به، ومن هنا كانت هذه الفوائد التي وقفنا عليها غاية في الأهمية في حال لم يوقف على النسخة الأصل.

فمن هذه الشذرات قول الشارح:” فإن كان على قرص الشمس غيم ولم يظهر .. وظهر قرص الشمس من السحاب وأنت تريد تبينه، فالحيلة في ذلك أن تأخذ إناء قريب الحافة من الأرض فتملأه بالماء واجعله في مكان مستويا بينك وبينه وتأخر عنه حتى ترى قرص الشمس في الماء في الطرف الذي يليك من الإناء، فاكتل ما بينك وبينه بأقدام فما وجدته فزد عليه مقدار ما بين عينيك ورأسك إن قدرته ثلث قدم أو أقل فزده فما اجتمع فهو الظل الذي تريد”.

ومن ذلك أيضا قوله: قال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا” وهما عبارتان عن كون الهواء مشرقا بضوء الشمس وكونه مظلما بعدم ضوئها فوق الأفق والليل عبارة كونها تحت الأفق، وأما اليوم فهو عبارة عن النهار والليل، ويطلق به النهار وحده، ويطلق ويراد به الزمان الحاضر. قال تعالى: ” فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا”. وفي نحو ذلك قول كعب بن زهير:

بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُول مُتَيَّمٌ إثْرَهَا، لم يُفْدَ، مَكْبُول

وهذه الخوارج النصية من كتاب المؤلف، وثقها الناسخ بكتابته في نهايتها عبارة: “من كشف الغمة”. وما ذكرناه هنا كاف لإيضاح أهمية هذا الشرح وضرورة مطالعته للمتخصصين في علم الفلك، ولمن له دراية به، وللمهتمين بتراث هذه الأمة الضائع في مكتبات المخطوطات في البلدان المجاورة.

وقد بين الشارح سنة تأليفه في نهاية المخطوطة حيث قال: وكان الفراغ منه بعد عصر يوم الثلاثاء 18 من شهر الله رمضان عام 1146ه أي قبل وفاة المؤلف بتسع سنوات. ونظن أنه ألفه في المدينة التي انتسب إليها وهي مدينة توات، حيث قال: قال الشيخ الفقيه العالم، العامل، العلامة الورع، الكامل، الفهامة ناصر الدين، أبو العباس أحمد بن الحاج الأمين التواتي، القلاوي، نفعنا الله به وبأمثاله آمين”.

والنسخة التي وقفنا عليها، تم نسخها عام 1150ه، أي بعد تأليفها بأربع سنوات، وهذا مما يزيدها نفاسة لقربها من فترة التأليف. واسم الناسخ قد طمسه بعض الواقفين على النسخة، ممن لا يعيرون أهمية للمخطوطات ولا لأسماء النساخ، ولا لتاريخ النسخ، ولا لمكانه، وهي عناصر أساسية في صنعة المخطوط.

وأما الخوارج التي أثبتناها فلم نعثر لها على تاريخ معين، وإنما وردت على نسخة من” المطلع على مسائل المقنع” لنفس المؤلف السابق، وهذا النص الأخير هو اختصار للممتع في شرح المقنع الذي شرحه الحاج أحمد كما بينا سابقا.

إن العمل على مثل هذا اللون من التراث يعد مشاركة فريدة في بعث تراث علم الفلك في بلاد شنقيط، وهو تراث شارك فيه علماؤنا بعدة نصوص ذكرنا منها الكثير في كتابنا المنوه به سابقا، وفي عملنا: حركة التأليف في بلاد شنقيط، مؤلفات الولاتيين أنموذجا، المنشور في مجلة آفاق الثقافة والتراث التي تصدر في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة.

إن مقصدنا من هذا كله ومما نتحدث عنه من تراثنا هو إنارة الطريق أمام علمائنا الشبان الذين لا يزالون ينظرون إلى هذا النوع من التراث بعين الريبة والتخوف والحذر، فأدعوهم إلى التشمير عن السواعد والولوج إلى تراث أمتهم، أمة بلاد شنقيط، وإخراج ما يمكن إخراجه منه، فالمكتبات العامة والخاصة تمتلك آلاف المخطوطات وما عليهم إلا البحث والتنقيب عنه، فسيجدون بغيتهم، ويشاركون بذلك في النهضة الثقافية لهذه الأمة المظلومة معرفيا.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى