روسيا و الغرب: بقاءٌ أم فناء؟/ علي الزعتري
لا تُحْسَدُ روسيا و هي اليوم في مرمى غضب أوروبا و الشمال الأمريكي و الكندي و بريطانيا. غضبٌ يتصاعدُ في العقوبات و عزل الروس و مصادرة أموال وأملاك شخصية لمواطنين روس و طرد و إهانة الدبلوماسيين الروس. قائمةٌ طويلةٌ و عميقةٌ من الإجراءات التي تستهدف الكيان الروسي بكل مكوناته التاريخية و الحياتية و حتى الفردية. لكن الأقسى هو ردود فعل من كانت جمهورياتٍ وأعضاء حلفاء لروسيا في حلف وارسو ثم صارت من دول الإتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. قد نفهم غضب الكل على روسيا من واقع الحرب الباردة التي لم تمت كما نرى، لكن هذه الجمهوريات المنتقلة للناتو لا تنضم للعقوبات و تُبدي الغضب فحسب بل تُبدي ما يمكن أن نصفهُ بالحقد الانتقامي الدفين و الذي يظهرُ الآن على الملأ. إنَّهُ انتقامها الذي انتظرته طويلاً. لا يمكنُ تفسيرَ هذا إلا عن طريقين: معاناةً مَرَّتْ بها أثناء الحقبة السوفيتية و انتشاءً تعيشه تحت علم الاتحاد الأوروبي و الناتو. لا شك أن التقييد الأيديولوجي الذي مارسته السوفيتية و ما صاحبها من تقييدٍ اقتصاديٍّ فضَّلَ الدولة على الفرد و أخذ من الفرد أسباب راحةٍ يجدها الآن كأوروبي. و كذلك مارس هذا التقييد هيمنةً من موسكو على العواصم الحليفة جعل من حريتها لأخذ القرار رهناً لرضا موسكو. و لِحَدٍّ كبيرٍ أيضاً ضاعت عند الفرد حريةَ الاختيار الديموقراطي و عانى من فساد المؤسسات و نفاقها الذي جعل من المجتمع أقليةً مستفيدةً مرتبطةً بالحزب و أكثريةً لا ناقةَ لها و لا جمل في الطرفِ الآخر. صحيحٌ أن الانتقال من معسكرٍ لمعسكرٍ صاحبهُ آلامُ الانتقال من ازدياد الفقر والبطالة و الشعور بالضياع بعد زوال الدولة الراعية لكن هذه الآلام تم تهدئتها بالتدريج للوصول لمجتمعاتٍ أوروبيةٍ شرقيةٍ ولائها للغرب. حكوماتها تعقدُ المقارنات و لا ترى استنتاجاً في نفوذ موسكو و حرب أوكرانيا إلا عودةً لذلك الزمان الذي ترفضه. هو زمانٌ لن يعود بالتأكيد و لا تعيشه دولٌ أخرى في الخاصرة الآسيوية لروسيا فهي تملك زمام أمنها و سياساتها، لكنه الخوف الدفين الذي يدفع شقيقاتها اللواتي انضممن للغرب لأن تمتاز ردود أفعالها ضد روسيا بهذه العدائية.
و بدايةً نُذَّكرُ بأعضاء حلف وارسو و قد كانوا الاتحاد السوفيتي و جمهورياته (روسيا و جورجيا و روسيا البيضاء و أوزبكستان و أرمينيا و أذربيجان و كازاخستان و قيرغيزستان و مولدوفا و تركمنستان و طاجكستان و لاتفيا ولتوانيا واستونيا) و قد تفاوتت ردودهم على أزمة أوكرانيا. مع الاتحاد السوفيتي ضَمَّ حلف وارسو ألبانيا و بلغاريا و تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت لدولتين و ألمانيا و المجر و بولندا و رومانيا و ألمانيا الشرقية. و بقيت يوغوسلافيا خارج الحلف عضواً بمجموعة دول عدم الانحياز لكنها على صداقةٍ مع الخلف و قد تفتت فيما بعد لجمهوريات صربيا و البوسنة و هيرتزوغوفينا و الجبل الأسود و كوسوفو و ماكيدونيا الشمالية و كرواتيا و سلوفينيا. و لكل واحدة موقف.
باستثناء المجر التي للآن تتخذ موقفاً محايداً من حرب أوكرانيا و روسيا البيضاء الحليف القوي لروسيا فإن باقي دول الحلف السابق اتخذت مواقف حادة و هجومية ضد روسيا في دعمها لأوكرانيا. فهي التزمت بالعقوبات الصارمة ضد روسيا و زودت أوكرانيا بالسلاح الثقيل و استضافت قوات حلف الأطلسي. ولعل الخطة التي اقترحتها بولندا مع سلوفينيا والتشيك من أوضحِ ما صدر ضد روسيا. و قد نصت نقاطها العشر على تشديد العقوبات المالية و المصرفية و قطع التعاملات المالية الالكترونية بالكامل. كما اقترحت إعطاء ملاذٍ آمن للمنشقين من الجنود الروس و تشجيعهم على الانشقاق. و اقترحت وقف الإعلام الروسي في أوروبا و منع رسو السفن الروسية و وسائل النقل الروسية البرية ووضع عقوباتٍ على كل أنواع التجارة مع روسيا و منع الروس من الحصول على تأشيراتِ دخول لأوروبا و فرض عقوباتٍ علي حزب الرئيس پوتين، روسيا الموحدة. و منع تصدير التقنية التي قد تستخدم في الصناعة الحربية و أخيراً عزل روسيا من كافة المنظمات الدولية. إنها قائمةٌ صاعقةٌ في صرامتها و في عمقِ نواياها إيقاع أكبر الأذى بروسيا و الروس دون مرحلة الحرب.
أما الجمهوريات السوفيتية التي استقلت فقد لزمت جانب الحياد باستثناء لاتفيا التي صرحت أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو جريمة حرب. و بقيت جورجيا في حيادٍ حادٍ بين ضغوط داخلية و خارجية للتنازل عن الحياد و دعم أوكرانيا صراحةً. و فيما يخص يوغوسلافيا تقف صربيا مع روسيا و ماكيدونيا الشمالية و كوسوفو و كرواتيا و سلوفينيا ضدها. أما البوسنة و هيرتزوغوفينا فإن حيادها قائمٌ على اعتراض المندوب الرئاسي الصربي على موقف زميليه ضد روسيا و قراراتهم لا تصدر إلا بالإجماع.
لا نشك في أن للدولِ حقوق السيادة التي تلزمها بتبني سياساتها الخارجية حسبما ترى مصالحها. و من الواضح أن دول أوروبا مع استثناءاتٍ بسيطة لا ترى مصالحها مع روسيا بل ترى في العداء لروسيا بشكلهِ الصارخ مصلحتها الأساسية من واقع انتماءها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. و نعلمُ أنه في السياسة لا توجد صداقاتٌ و عداواتٌ دائمة بل مصالح تقتضي الدوران لتبني ما رفضته دول سابقاً. لكن مستوى العداء لروسيا يصلُ حدوداً يسجلها التاريخ و يجعلها من الصعوبة بمكانٍ أن ينساها روسي في المستقبل. إنها تعَدَّتْ مراحل العبارات السياسية لتلك المتصلة بالبذاءة و الشتم العلني. كأنهُ غليانٌ داخلي كان ينتظر لحظةَ الثوران.
إن هذا يطرحُ فعلاً فرضية القفز من الحافة في هذا العداء الذي لا رجعة فيه بل أن المواقف المعادية تتعاضد مع استراتيجيةٍ لا تختلف عما فعلته سابقةٌ لها بالاتحاد السوفيتي، و سيكون غرضها تركيع روسيا و القضاء على نفوذها. أو على الأقل، إخلاء مجتمعها السياسي و العسكري من أنصار وحدة روسيا و استبدالهم بمن يميلون للغرب ميلاً لا جدال فيه. ليس خيالاً هذا لكنه التخطيط الذي قد يأخذ وقتاً للتنفيذ لكنه قابلٌ للتنفيذ بالنفس الطويل. العقوبات و الازدراء و المقاطعة و تضعيف الاقتصاد الروسي و خنق وسائله كلها في يومٍ ما قد تُفضي لانهيار الحكم الروسي الحالي. فمن كان يتوقع انهيار الاتحاد السوفيتي؟
روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي. من الصعبِ تخيل هذا الانهيار. إلا أن الصمود السلبي أمام الضغط الغربي ليس حلاً له. من هنا فإن نُذُرَ الحرب الكونية الثالثة تتشكل. إنها لروسيا والغرب مسألة حياةٍ أو موت.
كاتب ودبلوماسي اردني