أنا وصديقي د. بدي وصاحبة الوزارتين
أنا وصديقي د. بدي وصاحبة الوزارتين
الدكتور يحيى الشيخ
أستاذ الأدب في معهد العلوم السياسية في باريس
هذه قصة واقعية، غفر الله لصاحبها ما تقدم من ذنوبه الكثيرة وما تأخر …
وسببها أنني قدّمت طلبًا للمساهمة في برنامج ترشيدي خاص بالشباب ذوي الأصول العربية في أوروبا. وكان في اللجنة التي قابلتني ممثلون عن درزنة من الإدارات تتزعمهم غانية ذات ملامح من أهل الفردوس، آية في الحسن والجدّ، ولها آيات أخرى تدلّ على قدرته تعالى.
ــ سألوني عن مشروعي…!
ــ اِسألوني قبل أن تفقدوني، هذا موضوع أنا جديله وسيد فقهائه، وقد بلغت منذ نيف وكذا سنة درجة الاجتهاد والإفتاء فيه. ومما طافت به الركبان عن شهرتي وسمتي مما لا يعرفه إنس ولا جان أنني لا أتفق مع فقه السادة الحنابلة، ولو كان الوقت أنصف ولم يتأخر بي الزمان لكان سحنونُ المدوّنةِ تلميذي، ولكنتُ منعت أبا يزيد صاحب الرسالة من تقليدي، ولهذا شهد لي غير راشد أنني الإمام الأكبر للمالكية في هذا الموضوع…
أخذتْ مني الفتوى مع أعضاء اللجنة كل مأخذ حتى كادوا أن يعمّدوني المفتي العام للديار الأوروبية وما حولها من بلاد العجم وأكابر ما وراء السلطنة الباريسية، بل كادوا أن ينصبوني سيّد القرن لأضع حدًّا لأطماع بوتين السوفياتية في الإيالة الأوكرانية. ومع ذلك، فعقيدتي الحنيفية كانت تذكّرني في كل ثانية بأن الكمال لله وحده.
احتدَّ اللقاء، ولكن الحجب انجلَت فجأة لما تراجع قهر مارِدهم أمام بأس أملاكي فأصيبوا بلوثة أعادت إليَّ كراماتي. وعند انكسار شمس المُنازلة، انزوتْ يي زعيمة المقابلة، سألتني في نهاية لقاء دار :
ــ لستَ غريبًا عني، أخالُني التقيتُ بك في سابق الأزمان، في السندِ أو الهندِ، مع الدكتور بدّي؟
عادت لي مُشاهداتي، وكنتُ كدتُ أن أغيب عن رشدي من كثرة الحوارات، ويا لها من حوارات!
أجبتُ :
ــ هو ذاك…
وتذكرتُ هذا الصديق الذي يُظلِّلنا باسمه ونحن في طاحونة المهالكْ؛ وكالشيخ المربي تصل بركته لكل مريد وسالكْ.
قَرأتْ على وجهي ما جال بذهني، ضحكتْ بتغنّج، آنذاك أمِنتُ وجع صفعاتها؛ وكنت قبل ذكر “البدّي” قد “نذرتُ دم الوتين من قبل أن يَستجْوبوني” . أَخذتْ تذكر صديقنا الدكتور بدي بكل خير ومودّة، فأنْستْي عَتاديَ والعدّة، فإذا بالغيرة تأكل مني الفكر والصبرْ، فعلمت أني الفدية ولا أجرْ، لكأنني في عام الشدّة. قلت في نفسي: ليتها سكتتْ، فالسكتة مني قد أزفتْ! وكنتُ سمعتُ عنها وعن أصحابها ما جمعته في كفها من دواوين الوزارتين، ومفاتيح العدوتين، فلم أرِد أن تفوتني الفرصة، وإن كان بي قيء وفي الحلق غصّة.
كنتُ كلّي لها آذانًا مُصغية، كمن يسمع للمرة الألف سومفونية بالي، عسى سحر نطق الكلمات من فمها يُخفِّف من بلبالي:
قالتْ، والقول سعيد :
ــ سلّم لي علي الأستاذ بدّي. واكتفتْ بهذا الآي…
أجبتُ :
ــ بِوُدّي!”
نعم، كان بِوُدّي! أعرف أن أشغال الصديق غزيرة سائرة، وأن الكوفيد كاد يأخذه عنا ــ غيرة منا عليه ــ إلى الآخرة.
قالت:
ــ إني أجلّه وأقدّره.
تلعثمتُ وقد أدركتُ بأن لي في هذا الحب غريمْ، فَتَعَوَّذْتُ بالله الشيطان الرجيمْ.
قلتُ، وبي استحياءْ، مخافة أن يُفضح سرّي من الألف إلى الياءْ :
ــ وأنا أيضًا أقدّره وأجلّه…
كانتِ الشمسَ وكنتُ القمر، كل منا يجري بحُسبانْ، ونحن معًا نعرف أن بيننا برزخ، والبرزخ يعرف أن الشمسَ والقمرَ لا يبغيانْ! ثم توسلتُ من جهتي بالثناء على الغريم بدّي، ولكن صادقًا حتى لا أخدع وُدّي. ثم فتحتُ باب الثناء عليها، ذكرتُ خصالها الجميلة وأطنبْتْ، فخِلتها ” هو” الأحق بالمديح وخِلتني أنا صاحب البردة ما أنصفتْ.
ولأنني لم أحصل أبدًا على رخصة سياقة، لنفور يدي من المِقود، انسحبتُ إلى الميترو- كأهل باريس في شياكة وأناقة، وحالي يُنشدْ، ما سيأتي من كلام سيلعنني فيه من تفقّه في أصول العشق وما عربدْ.
وأنا أنشدُ في سرّي، التقيتُ في قصيدي – مرة أخرى – بالشاعر بدّي، ولكن عن بعدِ، في قصيدة ارتجالْ، تُعبّر عن بؤس الحالْ:
وَكنتُ متى مَررتُ وبي غَرامٌ
ـــــ تُشبِّهُني النساءُ تقولُ: بدِّي!
تُقبِّلُني وَلستُ له شَبيهًا
ـــــ فَأصرخُ: كانَ يا نفسي بِوُدِّي!
فَما أنا منهُ إلا طيف قَيسٍ
ـــــ وَهلْ لَيلى تُناجي أيَّ فَردِ؟
تُذكِّرُنيهِ حَسناءٌ تَجلَّتْ
ـــــ تَقولُ اليومَ: هلْ صاحبتَ بَدِّي؟
نَعمْ، عِشرون عامًا في اتِّصالٍ
ـــــ وأُخرى مِثلُها في خَيرِ وُدِّ
عُقودٌ كمْ تمرُّ بنا سِراعًا
ـــــ وَتَعرِفُ أنّنا أهلَ التَحدِّي!
وَتَعرفُ أننا كُنا شَبابًا
ـــــ نُضاهي في اليَفاعة حُسن وَرْدِ
يَفوحُ العطرُ مِنا كلَّ يومٍ
ـــــ وَلا عِطرٌ إذا غِبنا سَيُجدِي
وَبدِّي رَغمَ أعوامٍ تَولَّتْ
ـــــ شبابٌ، والشبابُ لَدَيهِ مُعدِي
يُرقِّيني إذا ما جارَ جِنٌ
ـــــ تَلبَّسني، يُرَقّيني بِوِرْدِ
كأنَّ كَلامهُ فَلَقٌ وَناسٌ
ـــــ وَبسْمتُهُ إذا ما بشَّ جَدِّي
وَكنتُ كَفِعْلِ يَوْمي لا أُبالي
ـــــ فَأعْطاني هنا صِفةَ التعَدِّي
فَصِرتُ أرى الجَمالَ بِكلِّ وَجْهٍ
ـــــ فَتَطبَعُهُ الشِّفاهُ بِصحْنِ خَدِّي
وَتَنظرُ لي الْمليحَةُ في وِدادٍ
ـــــ تُراوِدُني فَأَلْقاها بِصَدِّ
وتَتْبعُني وتَشْكو مِن بعادي
ـــــ فتَحسبُني أنا الْمَعْشوقُ بَدِّي
أَبدِّي كيفَ أمْشي في زَماني
ـــــ وكلُّ الخَلقِ في إثري وقَصدِي؟
يَقولُ هُنا خَطا بَدِّي وَيَحْسو
ـــــ تُرابَ الخَطْوِ يَسْتَجْدي بِبَدِّي
فَإنْ قُلنا هُنا قدْ مرَّ يَحْيى
– يَقولُ الناسُ لا، بَلْ مرَّ بَدِّي!
وإنْ قُلنا بَلى قدْ مَرَّ بَدِّي
ـــــ تَخالُ الناسَ في جَنَّاتْ خُلْدِ
وَحَسْنائي التي خَلَعَتْ عِذاري
ـــــ بِهْ لَحِقتْ وَعشتْ الحُلمْ وَحْدِي
ولكنِّي رفيقٌ لا أُبالي
ـــــ فَذا قَدَري أعيشُ العُمْرَ أَفْدي!
غَريمي في هَوى الحَسْناءِ لَكنْ
ـــــ أَصونُ، وَقَدْ طَغى الحُسَّادُ، عَهْدِي
وَكيفَ وَلي غَريمٌ صارَ يَحْيى،
ـــــ وَيَحْيى منهُ صارَ الْيومَ بَدِّي!
يُقدِّمُني كأنِّي كُنْتُ نِدًّا
وَهَلْ فاحَتْ عُطورٌ دونَ نَدِّ؟
وَسوفَ يقولُ لِلحَسْناء حَتمًا:
ـــــ أَهَنْتِ شَبِيهَنَا، بِاللهِ رُدِّي!
فَتخْجلُ ثُمَّ تَهتِفُ لي وَتَبْكي:
لَقدْ أَخْطأتُ، سامِحْني أَبَدِّي!
ظَنَنتُكَ أنتْ يَحْيى غَيْرَ أنِّي
ـــــ عَرفْتُ الآنَ، يَحْيى لَيْسَ عِنْدي
لَهَذي الأرْضُ تَعْرِفُ أنَّ يَحْيى
ـــــ تَحلَّجَ مُذْ زَمانٍ فيكَ بَدِّي
فَلَوْ كُنْتَ النَّبِيَّ لَقُلْتَ فيهِمْ:
ـــــ لَيَحْيى أَيُّها الأَتْباعُ بَعْدِي
فَعِشْ شَهْمًا صَديقَ الشِّعْرِ إنِّي
ـــــ وَجَدْتُ الْيَوْمَ فِيكَ بَديلَ سَعْدِ
تُلَقِّنُنا جَمالَ الرُّوحِ قُرْبًا
ـــــ وَفي الْكُوفيدِ تَلْقينًا بِبُعْدِ
فَلا تَبعُدْ فَإِنَّ الهَجْرَ مُرٌّ
ـــــ وَداوِ الجُرْحَ عَلَّ البُرْءَ يُعْدِي
——-‐——————————
كتبه ابن عبد ربه، الفقير إلى رحمته، يحيى الشيخ، عفا الله عنه وعن كل من طالع نصه أو نسخه أو عمل على الانتفاع به
من صفحة الشاعر المختار السالم أحمد سالم