ثقافة

لا تَبخسوا الشَّناقطةَ ما أُوتُوا..

 

ترجم الذَّهبي في سير أعلام النبلاء لبشر بنِ غياث المريسي, وذكر ضلالَه وانسِلاخَه من الورع والتقوى, ومقْتَ أهل العلم لَه وأنَّه كفَّره عدَّة, لكنَّ ذلك لم يَمنعه من نعته بالمتكلِّم “المناظر البارع” وأنه كان من “كبار الفقهاء”

وحين تَرجم الذهبي أيضا لأحمد بنِ أبي دؤاد وصفه بالجهمي, عدُوِّ أحمدَ بنِ حنبل, وأنه كان داعيةً إلى خلقِ القرءان, محبا للمحنة, ومع اختلافه العقديِّ معه لم يُنكر أنه “القاضي الكبير..له كرمٌ وسَخاء وأدبٌ وافر ومكارم”

وحين ترجم لمحيي الدين بنِ عربي الحاتمي ذكر خطورة مقالاته المقبوحة, وقال عن كتابه “الفُصوص”: “إن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر” لكنَّ ذلك لم يمنعه من الاعتراف بأنه “العلامة صاحب التواليف…له شعر رائق, وعلم واسِع, وذِهن وقاد..”

وترجم أيضا لابن الفارض, وقال إنه “صاحب الاتِّحاد الذي قد ملأ به التائية…فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالَم زندقة ولا ضلال..” ومع ذلك لم يجد بُدا عن الاعتراف بمنزلته الشعرية, فنعته بأنه “شاعر الوقت..وشِعره في الذّروة, ولا يُبلَغ شَأوُه”.

هذا في هؤلاء… فكيف بمن هو خير منهم بمراحل كثيرة على أبعد تقدير.

عجبي ممَّن يُنكر ثراءَ المحظرة العلمي ويَبخَس شيوخَها قدرَهم المعرفي وعطاءَهم الأدبيَّ, فيَسخر ممَّا هناك من حفظ عجيب ونباهة فريدة لمجرَّد اختلافه معهم في المنهج والتَّصوُّر..!!

إنَّ منهج أهل السنة وسننَ أصحاب الحديث النقدُ السليم الذي لا يخلو من الإنصاف الصادق والاعتراف الشُّجاع, فلا يُقرُّون خطأ الموافق محاباةً له, ولا يُنكرون مزيَّةَ المخالف سُخطا عليه, بل يُحسِّنون الحسن ويُقبِّحون القبيح, ويقولون الحقَّ لا يتجاوزونه.

فهم يَذكرون وجه ضَعف حجَّة المخالف, ويبيِّنون خطورة بدعة المبتدع, ويُفسِّرون جرحَ مردود الرِّواية ولكن في المقابل لا يُنكرون شيئا من محاسِنِه.

وفي المجروحين لابن حبان, قال عبد الله بن المبارك: “ما أدري فيمن رأيت أفضل من عبَّاد بن كثير في ضروب من الخير، فإذا جاء الحديث فليس منها في شيء” فهو لا يقبل حديثَه, ولكن يعترف بتفوُّقِه في وُجوهٍ من الخير.

وفي الثقات للعجلي عن حماد بن زيد, قال: قال أيوب: إن لي جارًا- ثم ذكر من فضله- ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة.

فهو لا يُجيز شهادتَه, ومع ذلك لا يُنكرُ فضلَه ومزاياه في جوانب أخرى.

وقال الحاكم في المدخل إلى كتاب الإكليل: ” كان أبو بكر محمد بنُ إسحاقَ بنِ خُزيمة يقول: حدثنا الصَّدوق في روايته المتَّهَمُ في دِينه عَبَّاد بنُ يعقوب” فلم تمنع التُّهمة بالبدعة من الاعتراف بصدقِه.

إنَّ ما شاع عن الشناقطة من انتشار التصوُّف البدعي والمعتقد الأشعري الفلسفي والتعصُّب المذهبيِّ لا يحملُ أبدا على إنكار ما شاع عنهم من سَعةِ علم وقوّة حفظ وحدَّة ذَكاء وتوقُّد قريحة..هذا مع ما اشتهر عن كثير من علمائهم من سلامة المعتقد وصحَّة المنهج.

وقد رحل كثير منهم إلى بلاد المغرب والمشرق, ففاقوا في العلم علماءَها , وكانوا في غايةِ الأدب هم السابقين..مع أنهم درسوا على ظهور العِيس, ورمال الصحراء, وفي ظلِّ الخيام والشجر, وعلى ضوء النار أو القمر, لا يَثنيهم عن العلم أمر , ولا يلوون عنه إلى شيء.

فلا يُستغرب قول العلامة المختار ولد امبالَّه مشيرا إلى موسوعية شيخه العلامة محمد يحي الولاتي:
لئن غابَ عن والاتَ يحيا فإنَّه..
تغيَّب عنها نورُها وشَبابُها

وغُيِّب عنها نحوُها وبيانُها..
وغُيِّب عنها فقهُها وصوابُها

 

فلا تُستغرب موسوعيةُ محمد يحي الولاتي, الذي كان من أكثر العلماء ممارسة للتدريس وقياما بالإفتاء وتعهُّدا للقضاء, وعناية بالتأليف, فقد شرح صحيح البخاري, وألف في المصطلَح, وجمع في الفقه, وشرح في الأصول المرتقى والمراقي ومنهج الزَّقاق ..وغير ذلك..مما ليس غريبا على من قال: “إنَّ ضوء الشمس أعزُّ من أن يُضيَّع في غير المطالعة”

 

ولا يُستغرب قول الشيخ الأديب المختار بنُ حامدن في شيخه العلامة “اقَّا” محمد عبد القادر ولد حبيب الله ولد محمد ولد محمد سالم:
فسائلُه بالعلم سودٌ طروسُه..
وسائله بالمال بيضٌ قِعابُه.
وهو كقول العلامة محمد سالم ولد عدود فيه:
فلربَّما ازدحم الوفودُ ببابِه..
حتى يكادُ بهم يَغصُّ البابُ

وافَوْه في طلبِ القراءة والقِرى..
فلهم خيامٌ حولَه وقِبابُ.

 

لا يُستغرب ذلك.. لأن العلامة “اقَّا” نشأ في رِحاب الدراسة, وتوفِّي وهو يُدرس, فهو عنوان رسالة محظرية متوقِّدة العزم, واضحة المعالم, لا يبلُغ علاها بُغاثٌ مستَنسِر, ولا يَمحو أثرَها مُفلِسٌ مُعسِر.
وذكري للولاتي و”اقا” رحمهما الله.. ليس تمثيلا للاعتراف بمحاسن ذوي المساوئ.. وإنما لبيان ثراء المحظرة وموسوعية شيوخها التي لا ينبغي أن تستغرب.

 

لا ينبغي إنكار تمكُّنهم من علوم اللسان, وحفظهم دواوين العرب, ومعرفتهم الفقه المالكيَّ وفروعَه, وعلمهم بالسيرة , وقدرتهم على قرض الأشعار وعقد الأراجيز..وغير ذلك مما تميَّزوا به, ناهيكم عن الحِفاظ على الهُوية وإنشاء بيئة علمية في تلك الظروف القاسية..خلاف ما يقوله العلمانيون أعداءُ كلِّ ما له صلةٌ بالدين.

 

يُمكن –خصوصا للدعاة- أن يعترفوا بتلك المزايا والمحاسن دون تمرير الأخطاء أو الإقرار على المساوئ.

 

وكلُّ من يبتغي العلم ينبغي أن يكون بينه وبين المحاظر رَحِم, ولكنه كما قيل:
ولم تَزَل قلَّة الإنصافِ قاطعةً..
بين الرِّجالِ وإن كانوا ذَوي رَحِمِ.

 

محمد سالم المجلسي

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى