بعد العصر من يوم سبتٍ ماضٍ خرجت كالعادة لكي أكسر رَتابة الأسبوع وأستعيد نفسا أبدأ به أسبوعا جديدا … وقع اختياري هذه المرة على الكورنيش الرباطي فتحركت صوبه … عند خروجي فتحتُ قرصا تناثرت فيه مقطوعات وملوَّنات مما أنتجه شعراء وفنانو هذا الوطن … اختار لي القرص من بين محتوياته شريطا من المرحومة “محجوبَ” بنت الميداح … تفاءلت بذلك وتمثل الحال قولهم: “اللهم اجعل صديقنا في طريقنا” … ظل الفكر خلال سيري على الطريق الساحلي طوراً يصحب الأذن وهي تستمع لأنغام وألحان حالمة تُرجعني لبداية الثمانينات من القرن الماضي حيث كنت أتخيل -وما زال بعض ذاك الخيال يرافقني- أن المرحومة محجوبَ تغني بمفردها زوالا في غرفة فسيحة عالية السقف بدار إحدى الأسر ذات الأصول السنغالية أو النهرية القاطنة بانسجام في مدينة المذرذرة … تُحيل في ذهني عناصر ذاك التخيل -الذي لا أعرف سببه – إلى شيئ مألوف ووِدي أو على الأدق “تيفلاشٍ” فلم أجد في الفصحى كلمة تحمل من الشحنة الدلالية ما تحمله تلك الكلمة المعبرة … وتارةً يجعل الفكر من العين رفيقا وهي تُوغل بالنظر في ذلك المحيط الأزرق الممتد في الأفق امتداد الآزال والآباد … غنت محجوبَ أبياتاً من همزية البوصيري في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مناسبة في ذلك الشهر الأغر والسياق المشحون …
وقرأنا السلام أكرم خلق
الله من حيثُ يُسمعُ الإقراءُ
وذهلنا عندَ اللقاءِ وكم أذْ
هلَ صبَّا من الحبيبِ اللقاءُ
ووجمنا من المهابةِ حتَّى
لا كلامُ منا ولا إيماءُ
ورجعنا وللقلوب التفاتا
تٌ إليهِ وللجُسُومِ انثناءُ
وسمحنا بما نحبُّ وقد يَسْ
مَحُ عند الضرورةِ البُخلاءُ
نظرت إلى المحيط متأملا قدرة الخالق وصغر مخلوقاته أمام مخلوقاته … استعدت بالفكر آلاف السفن وملايين البشر الذين خاضول لُجَجَه وأحرقوا مراكب العودة هرباً من الفقر والفاقة وطلباً للحرية والانعتاق في ما أصبح يعرف بعدها بالعالم الجديد … وكلي فكرٌ في ملايين آخرين تم جلبهم في أقسى الظروف وأبشع أنواع امتهان الإنسان لأخيه الإنسان … تم الإبحار بهم من الشواطئ الأفريقية في رحلة ذهاب لا رجوع منها كقوة عمل مجانية مسخرة للحقول والبناء في ما يوصف بالتجارة الثلاثية … لقد كان سماسرة الرقيق يشترونهم من بعض الأفارقة المُنتفعين مقابل منتجات صناعية زهيدة فيُسْلِمُونهم لملاك الحقول بالمستعمرات الجديدة في منتجات زراعية غالبها سكر وقهوة وقطن يبيعونها في أروبا مقابل الذهب … جعلت أفكر كيف بنى بعضهم ثراءه وحريته المنشودين على سلب حرية آخرين وعُدمهم وحطهم لمستوى البهائم أو أدنى … فكرت في عدم انضباط مجرى التاريخ وكيف خرج من دم القهر وفرث الاستغلال -وإن لم يكن خالصاً- لبن التطور والمساواة في بلد أصبح أقوى قوة عسكرية واقتصادية وسياسية على وجه البسيطة، بحيث ظل وما زال يعطي للعالم نغمته كيفما شاء، وكيف تتعدد الحقائق وتتناقض … فهذا بلدٌ أشاع الحرية والعدالة إلى حد كبير بين أفراد شعبه بينما أذاق وما زال يذيق شعوبا أخرى طعم الأمَرين من غطرسته وتسلطه …
أنشدت “محجوبَ” إحدى كامليات الشيخ حَمْدَنْ … تلك الكامليات التي أحس فيها زائد رقة ورفاهة حس وشيئا آخر أقرب ما وجدت للتعبير عنه هو “موسيقى الزمن” … وللزمن موسيقاهُ، فلقد قالوا إن تعاقب الليل والنهار مزامير صامتة … أعادتني هذه الأبيات بالذات إلى فترة متميزة لم أعرفها من تاريخ العاصمة نواكشوط… إنها فترة الستينات والسبعينات … دائما ما أفكر أن هذين العقدين من تاريخ نواكشوط يحتاجان لوقفة أو وقفات متأنية … جمعت العاصمة وقتها بين ثقافة عربية إسلامية أصيلة ومكينة تناولتها العصور الحديثة بطرف وبين مَدَنَية مجلوبة تلتمس طريقها في سياق بدوي عام … أظن أني أدركت بقايا ملامح ولو قليلة من ذلك بداية الثمانينات قبل أن يهجم عليها الزمن الذابل وتعبث بها أيادي الرداءة المتفشية … تتركز في ذهني تلك الملامح كلما شممت رائحة تلك الأشجار الفارعة ذات الورق المستطيل والتي مازال بعضها يقف في قلب العاصمة صامداً في وجه عاتيات الزمن … ىبما مررت بجنب إحداها فأقرأ في تدلِّي أوراقها خنوعاً وغُربة في واقع جديد غير ذاك الذي ألِفته في ذينكَ العقدَين …
لا تكذبي محجوبَ في الألحانِ
ودعي الغناءَ فإنه أفناني
لا تكذبي هذا غناء تكيبرٍ
يسري مع ألأنفاس والأبدانِ
أنت التي علمت عودكِ سحره
وجنيت به على بني الإنسانِ
لقد تم اكتشاف العالم الكامن وراء المحيط من طرف البحارة الإيطالي “كريستوف كولومبوس” عام 1492م بإيعاز من “فرديناند” ملك “أراغون … وكان هو نفس العام الذي سقطت فيه غرناطة أخر المعاقل الإسلامية في الأندلس بعد أن صمدت فيها الطائفة النصرية لمدة قرنين ونصف من الزمن شهدت نهضة أدبية وعلمية بالرغم من الضعف العسكري والسياسي أمام ممالكَ مسيحية استعادت أغلب أراضي الأندلس … تحكي الأخبار أن كريستوف كولومبوس حضر تسليم مفاتيح المدينة للملك “فرديناند” والملكة “إزابيلا” ملكة قشتالة من قبل أبي عبد الله الزغبي آخر سلطان إسلامي في الأندلس …
عند ذكر الأندلس وغرناطة استحضرت أن آخر علماء الأندلس قبيل سقوط غرناطة هو أبو عبد الله الشهير ب”الموَّاق” شارح مختصر الشيخ خليل شرحين كبير وصغير كلاهما معتمد في المذهب إلا ما كان من نقل بالمعني فقد شابه الذهول … وهو صاحب تآليف أخرى من أشهرها : “سنن المهتدين” … وقد اعتادوا أن يطلقوا “المواق” على التأليف الأخير لا على أي من شرحيه كما هو شأنهم مع غيره ممن شرح نص المختصر كبهرام والأجهوري والزرقاني والخرشي والشبرخيتي … وقد كان المقام مناسباً لاستحضار هذا العالِم الذي اشتهر رأيه في السماع … مما يروى أن العلامة بابَ بن الشيخ سيديا سأل العلامة الشاعر امحمد بن أحمد يورَ عما وجد للسماع فأجاب بما معناه “وجدت له ما قاله المواق” … فاستغرب من ذلك وقال له إن المواق بحوزتي وقرأته مرات ولم أر ذلك فيه … فلما أراه امحمد محل كلام المواق على الغناء قال ما مضمونه : “من ليس بصدد شيئ لا يراه” … مما يعزى لابنه السيد إبراهيم بن بابَ في هذا المجال بيتين غنى بهما المطربون:
الفكرُ في المسائلِ الصعابِ
يورثُ داءً في القلوبِ رابِ
دواؤهُ سماعُ صوتٍ يحسُنُ
وذاكَ في الموَّاقِ حكمُ بيِّنُ
يعرف عموما عن المواق آراؤه الفقهية التوسيعية النابعة من سياق أندلسي خاص وصل فيه ضعف المسلمين إلى أقصى الحدود، وكثيراً ما يقابلون نهجه المرن بنهج الشاطبي الأكثرِ صرامة… يُقال إن الملك “فرديناد” لما استولى على غرناطة سأل عن صاحب العلم فيها فأشار الناس إلى أبي عبد الله المواق فطلب حضوره وأمره أن يقبل يده أمام الناس على وجه الإحراج والتنقيص … فقبَّل المواق يد الملك مما أثر استهجان الحاضرين … بُعيدها تورمت يد الملك فطلب من المواق رقيتها فأرقاها …
لقد اعتاد المؤرخون أن يحددوا نهاية القرون والوسطى وبداية العصور الحديثة بعام 1453م الذي يصادف سقوط القسطنطينية (أسطنبول حاليا) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح … وفي الحقيقة فإذا كان فتح بيزنطة قد أصاب القرون الوسطى إصابة بالغة، فإن سقوط غرناطة واكتشاف الأمريكيتين قد أنفذا مقاتلها ليجُهز عليها اكتشاف الآلة البخارية وما تبعها مما أطلقوا عليه “الثورة الصناعية” …عاد الفكر إلى الشريط وإذا “محجُوبَ” تغني لابن بسَّام البغدادي من أبياته الجميلة :
وكانت في دمشقَ لنا ليالٍ
سرقناهن عن ريبِ الزمانِ
جعلناهنَّ تاريخ الليالي
وعنوانَ المسرة والأمانِ
ثم غنت قطعة للعلامة محمدن بن محمد بابَ بن أحمد يورَ، أحالتني بدورها إلى ثقافة محلية في “ابير التورس” كانَ وصفها الكاتب الصحفي محمد يجظيه بن ابريد الليل بأنها “تضاهي ثقافة دمشق” وأضاف “ولا أعني دمشق الآن” … وكان ذلك بمناسبة تأبين للمرحوم الصحفي أحمد وبن احميَّدْ …
لِمَحْجُوبَ “ردَّاتٌ” حباها بها الرَّبُّ
بها تنجلي الأحزانُ والهمُّ والكَرْبُ
وصَوتٌ يُربِّي العاقلين سماعهُ
فيالكَ من صوتٍ به يُصلَحُ القلبُ
تتوقُ لهُ الفتيانُ من كل وِجْهةٍ
ويطلبهُ من كل ناحِيةٍ شعْبُ
فلوْ كان في الشادين قُطْبٌ مُقَدَّمٌ
تلوذُ بهِ طُرَّا فأنتِ لهمْ قُطْبُ
فلا زلتِ يا محجوبً أنصرَ غينةٍ
فَنورُكِ ما يطفُو ونارُكِ ما تَخْبُو
وما يُرْسِلُ الرَّحمنُ للعبدِ وحْدهُ
فإدراكُهُ صَعبٌ وإمْساكُهُ صَعْبُ
إذا قُمْتِ يا محجوبَ فاللهُ حافِظٌ
وإن جئتِنا فالأهلُ والسَّهْلُ والرَّحْبُ
ثم غنت “محجوبَ” للشاعر المُفلق محمدْ بن أبنُو بن أحميدَنْ قافيته القافية البديعة التي قالها في مدح “الحاج اكْوَيًمِلْ”، والتي تُحاكيها قافيةُ أبي الطيب المتنبي : “تذكرت ما بين العذيب وبارقِ ::: مَجرُّ عوالينا ومجْرَى السوابقِ”… مع استحساني لقافية محمد تلكَ كلها، اعتدتُ – اتباعاً لنهج مألوف في الوسط – أن أختار منها أبياتاً غير مُرتبةٍ، أنشدها في شكل مقطوعة من بين ما أستحسنه وأنشده من الشعر العربي الفصيح ..
أكاملُ انت المُستلذُّ الخلائقِ
وأنت الفتى المرْجُوُّ بين الخلائقِ
وتَبسُطُ لِلزُّوَارِ كُلَّ أرِيكَةٍ
مُنَمَّقَةٍ مَحفُوفَةٍ بالنَّمَارِقِ
وَتَسقِيهُمُ مِنكَ الحَدِيثَ مُعَتَّقاً
وتَمنَحُ صفوَ الوِدِّ غَيرِ مُمَاذِقِ
وأنتَ الذي جُرِّبتَ في كُلِّ مَشهَدٍ
فَألفِيتَ مِفتَاحاً لِقُفلِ المَضَائِقِ
وأنتَ الذي أولاَك مَولاَكَ نِعمَةً
فَفَرَّقتَهَا في النَّاسِ مِثلَ المفَارِقِ
في “بَـيْڭي” أنْشدتْ المَرحومةُ “محْجوبَ” – بصَوتٍ ولا أروع َ ولا أقربَ للنفس- ابتهاليةَ امْحمَّدْ الصادية الذائعة في إشارة إلى أن الوقتَ أمسَى للتعوذ والتحصن …
دعوتك وهّاباَ حليماً إذا تُعصَى
لِمطلوبيَ الأدْنى ومطلوبِيَ الأقـصَى
فعجِّل قضاء الدين عني فإنـني
علي ديون لا تُعد ولا تُحـــصَى
ولا تدع الحساد إلا بحطــةٍ
إذا طلبوا نقصي تكون لهم نقـصا
وصَلِّ على قُطْب الكمالِ مُحَمَّدٍ
صلاةً بها الإعسارُ يُمسي لنا رَخْصا
وقد كان الأمر كذلك … فلما أدرتُ عيني إلى المُحيط أحسستُ منه انشغالاً وهو يستقبل زائرَه اليومي، إنها الشمس احمَرَّ وجهها وبان عليها أثر السفر ومالت للغروب … ودَّعت المحيط وتركته وزائرَتَه بعد أن أدَرْتُ عليها واوَ الوكيلِ ثلاثاً … ورجعتُ إلى البيتِ وحسبيَ اللهُ ونعم الوكيل.