ثقافة

ظرافات.. وظرفاء (10) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

غلطتُ هذه المرة في العنوان مع أني أمقت “الغلط” وأهله! فالعنوان الصواب هو غرابات وغرباء (وهذا مكتوم عن صديقي العزيز ول القرية معلوم) ولكني لن أصححه تماديا في الغلط وإصرارا عليه.
قال أحد الأقدمين: إن قدرت أن تقول الشعر جيداً، جيداً، فذاك. وإلا فليكن بارداً، بارداً، كشعر أبي العَبر وإياك والفاتر منه.
كان أبو العَبر أحد الظرفاء -على “شَعبة”- وكان يتشبه بالمجانين، ربما لأن الغاية تبرر الوسيلة في رأيه؛ وهو شاعر برز في فترة حوت أبا تمام والبحتري وأمثالهما ممن لم يمكن أن يبرز في وجوده فلجأ إلى الأطوار الغريبة سعيا إلى التميز والإبداع.
ومن أغرب ما يروى من شأنه أنه كان يغدو إلى السوق أو الشاطئ فيكتب ما يسمعه من كلام الناس حتى يملأ صفحتي ورقة بيده ثم يقسمها طولا ويلصق قسميها مخالفين فيتركب من ذلك كلام في نهاية الشذوذ والغرابة، ينال المكانة به عند السادة والقادة في مجتمعه، وكان يكنى أبا العباس في حال سويته، فلما اختار الجنون على السلامة اكتنى أبا العبر، وأصبح يزيد كنيته كل سنة حرفا حتى مات وقد بلغت كنيته سبعة عشر حرفا لا تدل على معنى مقبول (أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك)!!

***
مهلا.. أعرف أن هذا غير مجمع على كونه ظريفا، فمن لم يرقه ما مضى فليكن على علم أن الباقي من هذا القبيل ويؤسفني وداعه. وأعرف أنه غريب ولا أريد أن أستمر فيه دون عزو فأُنسَبَ إلى الكذب. وسيقتصر عزوي على مرجع مشهور سهل على من لم يتعود سلوك الدروب المعتمة لكتب التاريخ والأدب ومنعرجاتها ومزالقها؛ منشدا مع العلامة البدوي رحمه الله:
ولست إلا من مشاهير الكتب ** آخذ فليزكها أو ليسب!
أورد أبو الفرج الاصفهاني كلاما وافيا عن المتحامق الشاعر السابق المتشاعر اللاحق أبي العبر طويل “الْكًرَّةِ” والكنية، في كتابه “الأغاني” من ضمنه ما أذكره هنا، وكان فيه سنة 1989 ولا أعتقد أنه تبخر أو تسرب بعد رؤيتي إياه في الجزء السادس (على ما أظن) من كتابه المذكور.

***
فلأواصل إذن مع من رضي مرافقتي..
لم يكن أبو العبر نكرة ولا من بيت خامل! بل هو قرشي هاشمي يفصله ثلاثة آباء (فيما أظن) عن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عن مسلميهم. وعاش في دولة بني أبيه، وكان متوسط الشعر، وبدأ حوكه أيام الأمين وهو غلام، وفي خلافة المتوكل غير مساره بعد ما أناف على الخمسين! فترك الجد، وعدل إلى التحامق واشتهر به.
أما مجلس إنشاده لهذا “الشعر” فكان غريبا كذلك.. يجتمع عليه مُجَّان سر من رأى (سامراء) ليكتبوا عنه ما تلقاه غضا من أهل السوق وعابري الجسر، فيعتلي سلما ويوضع بين يديه إناء فيه ماء آسن وطين أسود منتن (شعرت بالربو عند كتابة هذا من مجرد ذكره!) وبيده قصبة طويلة، ويعتمر خفا، وينتعل قلنسوتين، ويكون المستملي في جوف بئر، وحول أبي العبر “عازفون” يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة، ويعلو الضجيج.. فيصيح المستملي من جوف البئر مخاطبا أبا العبر: من يكتب؟ عذبك الله! هنا يملي عليهم أبو العبر ما جاد به المارة على قريحته، فإن ضحك أحد من الحاضرين صُبَّ على رأسه من الماء الآسن والطين المنتن، فإن كان شخصية مهمة خففت العقوبة إلى الرش بالقصبة من الماء الآسن، وعلى كل يحبس الضاحك في الكنيف (أكرمكم الله) حتى ينفضَّ المجلس فيغرم درهمين ثم يفرج عنه.
كان المتوكل يستظرف أبا العبر فيرمي به في المنجنيق إلى الماء، فإذا علا في الهواء صاح: أفسحوا الطريق.. أفسحوا الطريق.. أو يزلجه على الزلاجة حتى يقع في البركة، فيخرجه السباحون أو ترمى عليه شبكة فيُخرج كما يخرج السمك! وفي ذلك يقول:
ويأمر بي الملك ** فيطرحني في البرَكْ
ويصطادني بالشبك ** كأني من السمك
ويضحك كك كك ككك ** كك كك كك كك ككك
(وأعفوني من تحديد البحر!)
وكان أبوه شيخاً صالحاً إلا أنه كان مغفلا على ما يبدو، وكان لا يكلمه! والسبب أنه رآه مرة ومعه سلم، فسأله عما يصنع به فقال: لا أقول لك! ثم مر به ومعه سمكة، فسأله عما يريد بها أيضا فأجابه بما لا يصلح للنشر، فحلف الشيخ لا كلم أبا العبر أبدا!


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى