التكييف الفقهي: الزلازل بين التخويف والعقاب
عند ما حدث زلزال تركيا المدمر اتصل علي أحد الإخوة الأدباء والكتاب النبهاء طالبا مني تبيين الرأي الشرعي فيما يقول الناس من أن أسباب الزلازل إنما هي معاصي من تصيبهم حتى بدوا يظهرون نوعا من الشماتة بالمصابين بدل مواساتهم طالبا قولا فصلا في ذلك؟
فقلت له وقتها إنني لا أرى دقيقة واحدة من الوقت بسبب الحجاج وموسم الحج ولكن عند ما ينتهي الموسم نبهني وذكرني وسأفعل إن شاء الله.
ولكن قدر الله أنني البارحة شهدت حدوث زلزال في المغرب فكنت شاهد عيان لا شاهد سماع، كما أني رأيت في هذا الفضاء من يحاول حصر أسباب الزلازل في العقاب وربما بنبرة تشفية بعيدة من الرحمة والمواساة فشد ذلك عزمي على تبيين الرأي الشرعي في هذا الموضوع وتصحيح مفاهيم يجب أن تصحح.
فأقول:
أولا الحكمة من كون الأرض ثابتة والزلازل نادرة.
خلق الله الأرض لتكون مهادا للإنسان وفراشا له كما صرح القرآن بذلك ولو كان هذا الفراش مضطربا وذلك المهاد متحركا لما تمت هذه الحكمة ولانتقضت هذه المصلحة لذلك كان ثبات الأرض أصلا وغالبا واضطرابها قليلا ونادرا، وقد أشار ابن القيم إلى هذه الحكمة بقوله:
(ثمَّ تَأمل خلق الارض على مَا هِيَ عَلَيْهِ حِين خلقهَا واقفة سَاكِنة
لتَكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والامتعة ويتمكن الْحَيَوَان وَالنَّاس من السَّعْي عَلَيْهَا فِي مآربهم وَالْجُلُوس لراحاتهم وَالنَّوْم لهدوئهم والتمكن من اعمالهم وَلَو كَانَت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرهَا قرارا وَلَا هُدُوا وَلَا ثَبت لَهُم عَلَيْهَا بِنَاء وَلَا امكنهم عَلَيْهَا صناعَة وَلَا تِجَارَة وَلَا حراثة وَلَا مصلحَة؛ وَكَيف كَانُوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تَحْتهم وَاعْتبر ذَلِك بِمَا يصيبهم من الزلازل على قلَّة مكثها كَيفَ تصيرهم الى ترك مَنَازِلهمْ والهرب عَنْهَا.
وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك بقوله {وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم} وَقَوله تَعَالَى {الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا}.
وَقَوله: الله الَّذِي جعل لكم الارض مهدا وَفِي الْقِرَاءَة الاخرى مهادا وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث انس بن مَالك عَن النَّبِي قَالَ لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الْجبَال عَلَيْهَا فاستقرت فعجبت الْمَلَائِكَة من شدَّة الْجبَال..) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 218)
ثانيا تعريف الزلازل وذكر أول زلزال في الإسلام.
الزلازل جمع زلزال قال ابن قتيبة: (و”الزِّلازلُ”: الشدائدُ. وأصلها من “التحريك”) غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 348)
وقال ابن الأنباري: (قال أبو بكر: الزلزلة، والزلازل، معناها في كلام العرب: الشدائد.
قال عمران بن حطان :
فقد أَظَلَّتْك أيامٌ لها حمسٌ … فيها الزلازلُ والأهوالُ والوهلُ) الزاهر في معاني كلمات الناس (2/ 122).
وأول زلزال وقع في الإسلام وقع في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال الحافظ ابن الجوزي في مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 5\ 335.
وذكر عن جده أن عمر ضرب الأرض عند ما تزلزلت بدرته فسكنت.
بعد هذه المقدمة التي جعلناها تمهيدا للتكييف الفقهي فإن الزلازل كغيرها من الآيات والبلاء ينزلها الله لثلاثة أمور حسب السبر والتقسيم وحسب استقرائي لنصوص الشرع؛ وهو الاستقراء الذي لا أدعي أنه تام .
وهذه الأمور الثلاثة هي:
التخويف؛ والعقاب؛ والرحمة.
أولا التخويف.
أما التخويف فدليله قوله تعالى: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: (قَوْلُهُ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وَإِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنْ آيَةٍ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ، أَوْ يَذْكُرُونَ، أَوْ يَرْجِعُونَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَاعْتِبُوهُ) تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (14/ 638)
فانظر كيف خاطب الصحابي الجليل ابن مسعود الذين أصيبوا بالزلزال حيث ذكر لهم أن هذا تخويف ولم يقل لهم أنتم عصاة تستحقون ما نزل بكم بل ذكر لهم أن هذا تهديد وعليهم أن يعتبوا الله وينيبوا إليه.
ومما يدل على أن الزلازل ليست متمحضة للعقاب قول الإمام ابن عطية في تفسيره:
(والمعلوم أن كل قرية تهلك، إما من جهة القحوط والخسف غرقا، وإما من الفتن، أو منهما، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل، فأما ما هلك بالفتنة، فعن ظلم ولا بد، إما في كفر أو معاص، أو تقصير في دفاع، وحزامة، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء، وكذلك الخسف..) المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز 3\ 466.
فصرح بأن القحط والخسف يصيب الله بهما من يشاء من المطيعين وغيرهم.
قال الحافط ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي: نخوِّف العباد ليتَّعظوا. وللمفسرين في المراد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنها الموت الذَّريع، قاله الحسن. والثاني: معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفاً للمكذبين. والثالث: آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. والرابع: تقلُّب أحوال الإِنسان من صِغَرٍ إِلى شبابٍ، ثم إِلى كهولة، ثم إِلى مشيب، ليعتبر بتقلُّب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي) زاد المسير في علم التفسير (3/ 34)
وأما ما يدل على قصد التخويف من السنة فقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الخسوف والكسوف:”إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله”.
فصرح بقصد التخويف لا العقاب.
قال ابن دقيق العيد: (وفي قوله – عليه السلام – «يخوف الله بهما عباده» إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية. وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسبابا عادية. وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله – عليه السلام – ” يخوف الله بهما عباده ” وهذا الاعتقاد فاسد. لأن لله تعالى أفعالا على حسب الأسباب العادية، وأفعالا خارجة عن تلك الأسباب. فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله، الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته، وعموم قدرته على خرق العادة، واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب. حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء. وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 349).
ومما يرجح سبب التخويف ولا سيما حين يتعلق الأمر بالمسلمين ما قاله ابن الأنباري:
(قال أبو بكر: الزلزلة، معناها في كلام العرب: التخويف والتحذير. من ذلك قول الله عز وجل: {وزُلزلوا حتى يقولَ الرسولُ} (174) ، أراد: خُوّفوا وحُذِّروا. وقال عمران بن حطان :
فقد أَظَلَتْكَ أيامٌ لها حَمَسٌ … فيها الزلازلُ والأهوالُ والوَهَلُ). الزاهر في معاني كلمات الناس (2/ 319)
ويرجح التخويف أيضا حين يتعلق الأمر بالمسلمين أن بعض العلماء طلب الصلاة عند الزلزال قياسا على الخسوف والكسوف وأخذا أيضا بالعموم من أحاديث أخرى؛ ولم يعهد من الشارع ولا في الشرع طلب عبادة عند العقاب وإنما عهد منه ذلك عند نزول البلاء والتخويف كالقحط والخسوف والكسوف.
ثانيا العقاب.
هناك أدلة تدل على أن الزلزال قد يكون للعقاب كما قال تعالى {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40].
وهذه الآية في الكفار قطعا.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسدهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها. فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام لآلئ قطع سلكه فتتابع».
وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا فشا في هذه الأمة خمسة يحل بها خمس إذا أكل الربا كانت الزلزلة والخسف وصح أنه – صلى الله عليه وسلم – قال جعل الله عذاب أمتي في الدنيا القتل والزلازل والفتن» .
قال ابن بطال في شرح البخاري: (ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) فى الرعد: (إنه وعيد شديد لأهل الأرض) ، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصى والإعلان بها؛ ألا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة فى أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم. فخشى أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت عائشة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث وإذا هلكت العامة بذنوب الخاصة بعث الله الصالحين على نياتهم) شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 26)
وفي كلام ابن بطال هذا وإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جمع بين سببي التخويف والعقاب مما يدل على أن الزلازل قد تكون تخويفا من العقاب وقد تكون عقابا، كما أن زلزلة المدينة المنورة في زمن عمر تدل على أن الزلزال قد لا يتمحض سببه لانتشار المعاصي والفجور بدليل أن مجتمع المدينة في زمن عمر بن الخطاب كان الغالب عليه الصلاح والفضل وإن استقل عمر ذلك مقارنة بزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا سبب الرحمة.
قد يكون الزلزال سبب رحمة للناس ورفع درجاتهم وتذكيرا لهم بربهم ليجأروا بالدعاء والتضرع إلى الله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94].
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت@
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم.
واخرج مسلم في صحيحه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” عَجبًا لِأَمْرِ الْمؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا للِمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ “.
قال الحافظ ابن حجر: (فكل قضاء الله للمسلم خير وله شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ عجبت من قضاء الله للمؤمن إن أصابه خير حمد وشكر وإن أصابته مصيبة حمد وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره؛ الحديث أخرجه أحمد والنسائي) فتح الباري 10/ 109.
وفي حديث آخر التصريح بهذه الرحمة قال الإمام ابن حجر الهيتمي في فتاويه:
(أخرج ابن السكن حديث «يكون في أمتي رجفة يهلك فيها زهاء عشرة آلاف أو أكثر من ذلك، يجعلها الله عظة للمتقين ورحمة للمؤمنين وعذابا على الكافرين»).
فالقسمة هنا ثلاثية انتثان منها للمسلمين: الموعظة والرحمة، وواحدة للكافرين وهي العذاب.
وقال الإمام ابن القيم:
(وَلما كَانَت الرِّيَاح تجول فِيهَا – أي في الأرض – وَتدْخل فِي تجاويفها وتحدث فِيهَا الأبخرة وتخفق الرِّيَاح ويتعذر عَلَيْهَا المنفذ اذن الله سُبْحَانَهُ لَهَا فِي الأحيان بالتنفس فَتحدث فِيهَا الزلازال الْعِظَام فَيحدث من ذَلِك لِعِبَادِهِ الْخَوْف والخشية والإنابة والاقلاع عَن مَعَاصيه والتضرع إليه والندم كَمَا قَالَ بعض السّلف وَقد زلزلت الارض إن ربكُم يستعتبكم وَقَالَ عمر بن الْخطاب وَقد زلزلت الْمَدِينَة فخطبهم ووعظهم وَقَالَ لَئِن عَادَتْ لَا اساكنكم فِيهَا). مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة 1/ 321.
فانظر فاء التعليل في قوله: ” فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة..”
والخلاصة:
1- أن أسباب الزلال متعدة من تخويف وعقاب وابتلاء ورحمة وحصرها في العقاب والعذاب جهل بالسنة الكونية والسنة التشريعية.
2- أن الزلازل تصيب الصالحين والمصلحين والفاسدين والمفسدين وهي في عمومها إنذار من الله للمؤمنين، وعذاب للكافرين وعظة للمتقين.
3- أن المتوجه على العلماء والمصلحين وحملة الشريعة عند حدوث الزلازل: تخوبف المسلمين من مكر الله ووعظهم بالتزام هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء لهم بلطف الله؛ كما فعل عمر بن الخطاب وكما قال ابن مسعود رضي الله عنهما، لا تبكيتهم والتشفي بهم كما يفعل الجهلة والسفلة.
من صفحة العالم: أبو سهلة سيد أحمد