نبذة وجيزة عن الشيخ سيديا (الكبير) بن المختار بن الهيبه
هو شيخ الإسلام وعلم الأنام كمال الدين الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبه بن أحمد دوله بن أبابك بن انتشايت الأبييري، لأمه عائشة (أم المؤمنين) بنت أشفغ عبيد بن الفاللي بن أبابك.
ولد عام المرفك 1190هـ. وقرأ القرآن على خاله سيديا بن أشفغ عبيد ثم على الطالب ألمين بن الطالب المختار التيمركيوي الذي أمضى معه أربعة أعوام برع فيها في القرآن وعلومه.
ثم انتقل إلى العالم الجليل الشهير حرمه بن عبد الجليل العلوي بلعكل فأمضى معه ثلاث عشرة سنة أتقن خلالها اللغة والنحو والصرف والبلاغة والمنطق والعقائد.
ثم سافر إلى الشيخ الجليل حبيب الله بن القاضي الإيجيجبي فأمضى معه أربعة أعوام درس فيها على يديه وعلى يدي ابنه محمد محمود الفقه دراسة إتقان.
ومن هناك سار إلى تيشيت للاستزادة مما في مكتباتها، والتباحث مع علمائها فأمضى بها وجه سنة ألف خلالها عددا من المؤلفات.
ثم واصل طريقه إلى أزواد مرورا بولاته وتنبكتو قاصدا الشيخ سيدي المختار الكنتي.
وهناك أمضى “ست عشرة سنة تامة، خمسة شهور منها مع الشيخ سيدي المختار، والباقي مع ابنه وخليفته الشيخ سيدي محمد، وابنه الشيخ سيدي المختار الصغير.. وكانت هذه المدة فيما بين أواخر 1225هـ إلى أواخر 1242هـ (هارون 54-55).
وبعد هذه الرحلة العلمية الطويلة والحافلة عاد الشيخ سيديا إلى أهله ووطنه أواخر 1242هـ أو أوائل 1243هـ مجازا في جميع مرويات أهل الشيخ سيدي المختار الكنتي، وفي جميع الفنون، فأما في العلم فحدث عنه ولا حرج، وأما في العمل فكان مضرب المثل.
نقل عنه في بعض التراجم أنه في صغره وطفولته لم يقع منه ما يقع من الصبيان، وأنه منذ عقل إلى أن توفي لم يفعل مكروها ولا خلاف الأولى.
وأما في مكارم الأخلاق فبلغ الغاية حلما، واحتمالا، وصبرا، وكرما، ورئاسة، وحسن خلق، وحسن تدبير، فاشرأبت إليه الأعناق، وامتدت إليه الأحداق، واستقامت به الأحوال، وتحققت به الآمال، وانثال عليه الناس من كل حدب وصوب، فعلم الجاهلين، وأرشد العالمين، وأعان الرؤساء، ووجه الأمراء، وكف السفهاء، وواسى الفقراء، وأصلح بين ذوي العداوات، وكف أذاهم بعضهم عن بعض.
وتواصل مع أمراء الإمارات التي من حوله الترارزة والبراكنة وتكانت وآدرار، فتتلمذوا له، فكان يكتب إليهم ناصحا ومرشدا وموجها، بما يقيم أمورهم ويصلح ذات بينهم. وواجه الفرنسيين ورد على افيدرب برسالة قوية حازمة يدعوه فيها للإسلام نشرها المؤرخ الزنجي المشهور الشيخ موسى كمرا (تـ1945م) في كتابه المجموع النفيس.
وصالح بين إمارات الترارزة والبراكنة وآدرار في مؤتمر تندوجه في مستهل 1856م، وجمع كلمتهم في وجه فيدرب الذي كان يخوض مواجهة مع الترارزة، وكانت نياته الاستعمارية واضحة للشيخ سيديا وابنه الشيخ سيدي محمد الذي خلدها في قصيدته المشهورة:
((رويدك إنني شبهت دارا
على أمثالها تقف المهارى…))
الشيء الذي اعتبره فيدرب تعزيزا لقوة عدوه أمير الترارزة محمد الحبيب وشيخه الشيخ سيديا كما تقول المراجع الفرنسية.
وحضر الشيخ سيديا معركة الركبه يوم 6 يونيو 1856م بين أمير البراكنه امحمد بن سيدي ضد خصمه سيدي اعلي بن أحمدو الطامح للوصول إلى عرش الإمارة.
وكان الفرنسيون قد قرروا أن يشاركوا في الصراع، ويخوضوا المعركة ضد الأمير امحمد لزعزعة الإمارة، وحضر الشيخ سيديا هذه المعركة مناصرا لتلميذه الأمير امحمد بن سيدي، فانهزم الجيش الفرنسي شر هزيمة مخلفا وراءه 23 قتيلا و15 جريحا، بينما قتل آحاد من جانب الأمير امحمد أفتى الشيخ سيديا بأنهم شهداء يدفنون بلا غسل ولا صلاة.
وقادته جهوده السياسية والاجتماعية التي انصبت على إصلاح البلاد والعباد، والإعداد للجهاد ضد الفرنسيين إلى التراسل مع ملك المغرب المولى سيدي محمد سنة 1860م الذي كتب إليه راغبا في الحصول على السلاح والعتاد لمجاهدة الفرنسيين.
وكان للشيخ سيديا علاقة سابقة بالمولى سيدي محمد هذا، حدثت بمناسبة سفره إلى المغرب في عهد أبيه المولى عبد الرحمن بقصد الحج، فإنه كما نقل في الوسيط: “لما قدم إلى مراكش وجد المولى سيدي محمد بن المولى عبد الرحمن ألكن لا يبين الكلام فتفل في فمه، فانطلق بالكلام” (الوسيط 241). ولم يحج الشيخ سيديا لوصول الأخبار بظهور الوباء بالحجاز، لكنه عاد بمكتبة كبيرة تضم الكثير من نفائس الكتب، أشاد بها وبصاحبها العلامة بابه بن أحمد بيبه العلوي بقوله:
((لك الطائر الميمون والمنزل الرحب
فإنك أنت الغوث لا شك والقطب
أضاءت بلاد الغرب لما حللتها
وأصبح يبكي عند ترحالك الغرب
وجئت بكتب يعجز العيس حملها
وعندك علم لا تحيط به الكتب
وأنت حسام قاطع كل شبهة
وأنت سراج في البرية لا يخبو))
ولم تشغل كل هذه الأحوال السياسية والاجتماعية المذكورة الشيخ سيديا عن مواصلة التأليف والفتوى فألف في علوم القرآن والعقيدة وعلوم اللغة والتصوف والفقه. وكان شاعرا مطبوعا ترك شعرا كثيرا.
كما لم تشغله هذه الأحوال عن مواصلة التربية والتزكية، فتتلمذ له خلائق لا يحصون، وتصدر على يديه عدد كبير من كبار الأجلاء نذكر منهم الشيخ أحمدو بن اسليمان، والشيخ أحمد بن المختار بن الزوين، والشيخ أحمد بن الفاللي، والشيخ سالم بن آبوده، والشيخ سيدي الأمين بن محمود بن اطوير الجنه، والشيخ محمد محمود بن الرباني، والشيخ سيدي محمد بن سيدي أحمد بن حبت، والشيخ أحمدو بن أشفغ محمذن، والشيخ سيدي الأمين بن حبيب الله، والشيخ محمدو بن حنبل، والشيخ الحسن الحسني، والشيخ محمد امبارك اللمتوني…إلخ.
وكل خصال الشيخ سيديا الأثيرة ومحاسنه الكثيرة مذكور في دواوين الشعراء الذين عاصروه ومدحوه بما لا يحصر من القصائد الفريدة، مما سارت به الركبان وانتشر في الآفاق حتى اتفق الناس أنه لا كفء ولا نظير للشيخ سيديا في البلاد. قال محمذن بن أحمد العاقل الديماني:
((إضافة الشيخ لغير سيديا
في قبلة أظنها تعديا
“فذي الإضافة اسمها لفظيه
وتلك محضة ومعنويه”))
وقال أحمد بن الأمين العلوي في الوسيط: “هو العلم الذي رفع على أهل قطره، واستظل به أهل دهره، وماذا أقول في رجل اتفق على أنه لم يظهر مثله في تلك البلاد، وقد رأينا من أحفاده ما يرفع العناد، إذ من المعلوم أنهم قاصرون عن مداه، أو لم يجاوزوه إلى ما وراه (…) فلم تزل فضائله تبدو حتى أذعنت له الزوايا وحسان وصار مثل الملك بينهم فلا يعقب أمره، وكان أهلا لذلك كرما وحلما وعلما، ولم تزل الدنيا تنثال عليه ويفرقها بين الناس (…) وكانت العرب في أرض شنقيط تجعله حرما آمنا، فيجتمع عنده أحدهم بمن قتل أباه أو أخاه فيجلسهما على مائدة واحدة، وإذا بلغ الجاني نواحي البلد الذي يقيم به أمن على نفسه. ولم يمض عليه يوم إلا وعنده آلاف من الناس يطعمهم ويكسوهم ويقضي جميع مآربهم حتى لقي الله، ولا يسأله أحد حاجة إلا أعطاه إياها بالغة ما بلغت (…) وكان يبلغه أن الطريق منقطع في الجهة الفلانية لعدم عمارتها فيحفر فيها الآبار، ويبعث المؤن الطائلة لقرى المارين، وفضائله أكثر من أن تذكر رحمه الله”.
توفي رضي الله تعالى عنه يوم الخميس آخر يوم من ذي الحجة 1284هـ عند تندوجه بئر له حفرها من آخر ماحفر رحمه الله.
من صفحة الصحفي الحسين ولد محنض