#مانِكَْدِرْنِعْرِيهْ.
رحم الله أبي…كان حرفيا مجيدا..
توفي أبي وانا في السنة السادسة من باكورة حياة…لم أشعر فيها باليُتم إلا قليلا…والدتي الصبورة و جدتي العتيدة وأخي العزيز كفوني الكثير…وأنساني الصغر هول الفاجعة.
لم يكن والدي من نبلاء الموظفين أو المعينين..وإنما كان رَفَّادْ البَاكَِي… كما كان يحلو لساكنة آمِشْتيلْ و آوْكارْ أن يلقبوه…
رحل والدي في الأربعينات من عمره دون أن يترك إلا ذكرا جميلا وعملا نبيلا خالدا…لم يترك لي وصية ولا تنويها لتوظيفي… لم يجعلني كائنا فضائيا أقتحم بمجده وذكراه وعبقه فضاءات التوظيف..لأنه لم يكن من المقربين المحظوظين.. رغم أنه كان قريبا من دائرة الحاكمين يومها.
لقد رحل أبي في أحد صباحات 1985 دون أن تنعيه الدولة بوفد كبير كما تفعل كلما توفي “عَيْنٌ” من أعيان هذا المنكب البرزخي العصي على التصنيف المعياري؛ لأنه ليس من نبلاء “الموظفين” ولا من المصنفين أنهم مستحقون على دولة الأعيان ان تنعيهم إلى المثوى الأخير.. وتعزيهم ..
وبعد إحدى و عشرين سنة من رحيله ولجت الوظيفة دون توصية منه أو طلب أو وساطة…دون أن أدخل من سقف الاجراءات الخصوصية و لا من وليجة الجزاء من جنس العمل.
اليوم وبعد خمس وثلاثين عاما من رحيله لا زلت أسمع بثلاث مسائل تؤرقني… وتؤرق نظراءه الباقين على قيد الحياة، من الذين عملوا بكد وجد واستثمروا عرقهم و صبرهم في أبنائهم أملهم…هؤلاء تقتلهم كل خميس متجدد عبارة:
1. وقد اتخذ المجلس الاجراءات الخصوصية والتي اتخذت في الماضي ولا ارجوها في الحاضر ذريعة لاضعاف التسلسل الاداري المهني خصوصا في المناصب الفنية للادارات.
كيف يعين من رسب في مسابقة ولوج شفافة للوظيفة العمومية في منصب أعلى ممن فاز عليه وولج الاداراة باستحقاق..
طبعا هناك فرق شاسع بين التوظيف و التعيين لكن الاطار سيصاب باحباط كبير حين يرى هذا الكائن الفضائي الذي أقلته مركبة الاجراءات الخصوصية وحطته في إحدى الوظائف الفنية…
يصدق هذا في جميع القطاعات الحكومية للاسف.. كما يصدق على بعض الموظفين التائهين عن قطاعاتهم الفنية … ستجد استاذا جامعيا امينا عاما أو سفيرا أو مديرا، لم يؤلف لم يدرس لم يبحث إلا قبيلا أيام كان يلمع نفسه ويقدم نفسه انه أستاذ جامعي كأنه مدرس متون ثارَّة…و ستجد معلما مديرا إداريا أو مفتشا ماليا او سفيرا وستجد طبيبا سفيرا أو مديرا ثم نتحدث عن أصلاح التعليم والصحة وستجد قاضيا قنصلا او وزيرا للصناعة ..إلخ وعلى هذا فقس إنها كارثة كبيرة تقضي على التدرج الوظيفي و على الانتاجية.
2. عندما تنتهي صلاحية أحد نبلاء “القوم” او ينتهي عمر غيره من سدنة الشأن العام الصاخبين.. ويخرج من الباب بعد أن أمضى عمرا مديدا في الوظيفة ، إذا به يدخل من النافذة من جدبد وبانتقائية عن طريق تعيينه كرئيس مجلس ادارة وكأن مجلس ادارة مؤسسة يُعنى برسم السياسات ليس مهما… وكأن قدرنا أن نظل في فلكه الى أن يموت،تحسبها أحيانا “كَِرْعة” الفلانيين، كم رأينا من رئيس مجلس إدارة لا يفهم أبسط اساسيات المؤسسة التي بُلِيَّت به.إنه امتياز المتقاعدين و نبلاء المُسَكَّتِين…من أعيان فيافي السافيات، والأشعة الماحقات الحارقات.
3.أطباق طائرة عجزت عن الولوج للوظيفة أو عزفت عن التدرج في مدارجها وأهوالها لتتربع على متدرجين أفنوا اعمارهم في الزحف لم تُسندهم جهة ولا جاه و لا قبيلْ… يأتيهم متدحرج جوي من علٍ شديد سواد الشعر ..لا يرى عليه أثر السفر …ولا يعرفه حتى البواب ..أنها مأساة تُحبط آلاف الموظفين الشرفاء…. وتقضي على ذكرى أبي و السائرين على دربه ممن افنوا اعمارهم ليروا أبناء يصارعون أمرا مقدورا كأنه قدر مكتوب أن سيروا سير آبائكم…
أيها الناس آن لنا أن نقضي على هذه العادات الشاحبة التي تثير اشمئزاز العاطلين…
يجب أن نحترم التدرج الوظيفي ..والمهني..
يجب ان تمتلك الشجاعة لتقول :إنني لا أصلح لهذا…إنني لا أستحق هذا…إنني أستغني عن هذا..فالدنيا بخير.
من صفحة القاضي: هارون ولد إديقبي